محمد أبو الفضل يكتب: نظرة عطف !!!

السبت، 02 يناير 2016 08:01 ص
محمد أبو الفضل يكتب: نظرة عطف !!! أطفال شوارع - صورة أرشيفية

مشاركة

اضف تعليقاً واقرأ تعليقات القراء
كلما يممت وجهتك فى شوارع مدن الصعيد وحواريها الجانبية أصبت بصدمة من حيث لا تحتسب، الفقر يقفز صارخًا فى وجهك بمناداة الأهالى لحل مشكلة ما والشكوى من تقاعس المسئولين أو ضعف الخدمات أو باستجداء أمهات تشعر بالخطر على أطفالهن بفعل التلوث الصحى أو صامتًا بيأس وإحباط وقهر وجوع فى عيون الأمهات ممن يحملن أطفالهن على الأكتاف ويجرجون آخرين فى ذيل أثوابهن تشغلهم حياة البؤس مع إدراكهن أن فى نهاية المطاف والسير وراء شائعات الإرهابية ينتظرنا وحش القتل والموت ودرب التيه.

يتقافز البؤس والتوحش من حولك، ومشاهد اليأس والتهميش تتنقل بين عينيك، توخز ضميرك هنا وهناك. الأسئلة تتكاثر فى عقلك والإجابات تتشتت وتتداعى فى وضعٍ لا يحتمل التأويل ولا التنظير. الصور عناوين للحالة البائسة المستعصية التى أصبح عليها عالمنا بكل تناقضاتها العارية.

أفقرتنا أنظمة الفشل والاستبداد والديكتاتوريات السابقة، فمن أحضان الأمهات والزوجات ومن دفء البيوت والأعشاش ومن حلاوة اللقمة المغموسة بالحلال بعد جهد يوم متعب، إلى الأرصفة وناصيات الشوارع حيث تمتد الأيادى لبيع البطاطا والتين الشوكى والعسلية، هذا يصرخ فى وجههم ويشتم، وآخر ينكزهم مرة وأخرى بخجل، وآخر يغط الطرف عنهم.

لا يمكنك المقاومة، دموعك تحتبس أحيانًا، وأحيانًا أخرى تنهمر كسيل دامٍ بلا توقف إزاء طفل جائع ينتفض بردًا فى ذاك المساء الشتوى الدافئ، يمد يده الصغيرة:
علشان خاطر النبى... يا عم... لقمة... أنا جوعان... ليه يومين ما أكلتش.

يكسر الزمن رتابته، يعود بك شريط الذكريات إلى تلك اللحظة الحميمية وأنت تحتضن كف صغيرك الدافئة الناعمة بيد وتدعس اللقمة بيد أخرى.. يا الله، كيف تبلع لقمتك، كيف تهضمها، قبل أن تتقيأها وتتقيأ معها حالتنا المزرية.

نتخيل ويصيبنا الوهم بسهامه للنخاع، نلملم حالتنا أملاً وهربًا لأيام وأسابيع راحلين إلى مدن الدنيا عل نفوسنا تهدأ، علها ترتاح من عناء ضغط وحكايات تنتهك فيها حرمات الإنسان ويحجر الرقيب على اللسان والقلم والقلب والعقل، نعم إنه الوهم هرباً من الجنوب للشمال... لكن الحالة تأبى إلا أن تفرش لك أجنحتها وتسرد نفسها وتصير أنت معها الواهم بالراحة والاستجمام جزءاً لا يتجزأ من الضياع فى شوارع الفقر والعوز الباردة تلك التى يفترشها الأطفال والفتيات الصغار ممن تعلو وجوههن براءة وانكسار وحزن دفين يمزقك إرباً إرباً ويلقى عليك سؤالاً تلو الآخر، لا تدرى من أين تبدأ الإجابة عليه، أمن وجوه أمهاتهم المشردات اللاتى يقفن خلفهن وعلى أذرعهن طفل آخر رضيع ، أو من الآباء أو الأزواج أو الإخوة المحاربين الأشاوس فى جبهات الاقتتال العبثية، أم فى ذاك البرد القارس الذى لم تعد تشعر به وترتعد ، سوى أنه كان يوما ما يتصدر مواضيع التعبير التى كنت تكتبها فى دفاتر الإنشاء ، تبقى الإجابات معلقة موجعة برسم الكبار الذين يحددون مصائرنا ويتسببون فى تدميرنا، تبّاً لهم جميعا.

التشرد والضياع هو أن تسكن الشارع، أن يصير بيتك وملاذك، وإن كنت محظوظًا فستكون لديك بضاعة تسوقها ذهابًا وإيابًا، قد تكون كلمةً أو خدمةً، وقد تكون طعامًا، هاربًا أنت بها من زبائن الشكك، لاهثًا أنت يحذوك الأمل فى ترويجها ببضع جنيهات المختبئة فى محفظتك، جنيهات لا تحل ولا تربط فى حالتك، حالتنا المستعصية من البؤس، يروج بضاعته.
إنها ليست عملية بيع وشراء حقيقية كما اعتدنا، هى فى مضمونها وشكلها استجداء وحاجة ملحة، ست الستات فاقدة الرغبة والشهية، هى ضعيفة وعاجزة وحزينة ولاتزال تتقيأ الحالة وتهرب خجلاً من فقر فاقع يكسر القلب ويدميه بمشاهد شباب بعمر الزهور لم تبتلعهم تنظيمات الإرهاب بعد، وهاهى الشوارع والأزقة تكتظ بهم عوضًا عن مقاعد المدارس والجامعات ومراكز التدريب والألعاب والحدائق، أى جفن يغمض وأى عين ساهرة على الحق تنام، ومأساة أمتنا العربية تتمدد وفشل أنظمتها الاستبدادية ينتشر فى عروقنا كما السرطان.

تتلألأ شوارع المدينة بالأضواء وزينة شجيرات أعياد الميلاد، كل ما حولك يدق أجراس موسم الأفراح، يعلن اقتراب نهاية العام، لكن الغصة تخترقنا من الوريد إلى الوريد وسط ظلام دامس يكمن فى قعر دواخلنا وانكسار نفوسنا، فالتشرد والقتل المجانى صار على مرمى من أقدامنا، ومع ذلك غمرتنى فى قاعة الانتظار بمحطة أسيوط ابتسامة مروان البريئة ، ابتسامته المشوبة بذكاء حاد ونظرة فضول ركز على قطعة فطير التى بين أصابعى وأنا أهم بمضغها بشهية، أسأله بالإشارة إن كان يرغب بتقاسمها معي؟ ينظر لى بحلاوة طفولية تدخل البهجة إلى نفسى وتدفعنى للابتسام، بإشارة أفهم أن لا مانع عنده شرط أن أستاذن والديه ، ابتسم موافقة، يكشف والده أمرنا مبتسماً، أقدم له كعكتى فطيرتى كالأطفال يبتسم بفرح، ثم يمضى راحلاً مع أهله فى مسار خط المهاجرين على ما يبدو من سنين.










مشاركة



الرجوع الى أعلى الصفحة