يسرا محمد سلامة تكتب: ومازال العطاء مُستمرًا

الأربعاء، 24 أغسطس 2016 02:00 ص
يسرا محمد سلامة تكتب: ومازال العطاء مُستمرًا ورقة وقلم

مشاركة

اضف تعليقاً واقرأ تعليقات القراء
 إن تحظى بفرصة التتلمذ على يدى العلماء لهى نعمة كبرى، لا يعرف معناها إلا من حُرم منها، فجلوسك فى رحابهم مُتعة لا تُضاهيها مُتعة أخرى فى الحياة، فكل طالب علم يحلم بالفرصة التى تسنح له لكى ينعم بصحبتهم.
 
عن نفسى أسعدنى الحظ وتتلمذت على يدِ واحدٍ من هؤلاء المعدودين، واحد أقل وصف له أنه عالم قلّما يجود الزمان بمثله، مُعلم أجيال عديدة، صاحب فضل كبير على الكثير من الأساتذة الكِبار والمؤرخين الذين يَشهد لهم الجميع بالكفاءة، إنه شيخ المؤرخين العرب الأستاذ الدكتور محمد محمود السروجى.
 
بداية تعارفى بسيادته كانت فى عامى الجامعى الأخير، قام بتدريسى مادة تاريخ مصر والسودان الحديث والمعاصر، كتاب من تأليفه يحتوى على واحد وعشرين فصلاً لم يَلغى منهم حرفًا واحدًا، كان يحضر جميع المحاضرات دون تَغيب، يسعد بمشاركات الطلاب فى شرحه، لا يَمل أبدًا من أسئلتهم يتلقاها بصدرٍ رحب، يرد عليها جميعًا، يعشق التواصل معهم، فبعد انتهاء كل محاضرة يسعد بلقائهم، يتحدث معهم فى كل الأمور التى تشغل بالهم، فهم مُقبلون بعد هذا الفصل الدراسى على الحياة العملية، ويجهلون مصيرهم وما ستئول إليه الأمور، وقد كنت من هؤلاء الطلاب القلقين على مستقبلهم، فحدثته يومًا عن رغبتى فى تكملة دراساتى العليا – لكن - بعد أن أخذ هدنة لمدة سنة من الدراسة، بعدها استأنف العمل الجامعى مرة أخرى، فابتسم لى ابتسامة هادئة وقال لى جملة أتذكرها جيدًا حتى اليوم وكأنها حدثت بالأمس القريب "لا يا يسرا المكنة تبرد كملى على طول"، وبالفعل أخذت بنصيحته وأكملت.
 
وللمرة الثانية أنال شرف تدريسه لى فى مرحلة تمهيدى الماجستير، فى مادة صعبة للغاية على كل من يلتحق بالدراسات العليا، وهى مادة منهج بحث، مادة تُصقلك إذا أتقنت فنها؛ لتجعلك قادرًا على كتابة أى بحث تاريخى بمنهج علمى سليم، بعدها كان لى الشرف الأكبر؛ عندما وافق أستاذى العزيز على الإشراف على فى مرحلة الماجستير، وكان لى معه فيها مواقف كثيرة لن أنساها ما حييت.
 
 أولها: عندما أردت اختيار موضوع بحثى، وقتها كنت قد حددت الموضوع، لكن أغرتنى عدة موضوعات أخرى، لم أكن أعلم هل تم بحثها من قبل أم لا، فتأكدت أنها جميعها لم يقم أحد من قبل بالتطرق لها، عُدت إليه وأنا فى حيرة من أمرى علّنى أجد عنده ما يُخرجنى من هذه الحيرة، ويحسم لى الأمر، فوجدته حازمًا فى رأيه مُصممًا على أنه يجب على الاختيار لا هو من يختار لى؛ حتى لا أندم بعد ذلك على اختياره، وتخبو بداخلى شرارة البحث العلمى، وقال لى "أمامك ست موضوعات لم يبحثها أحد من قبل، اختارى منها الأقرب لكي"، وبالفعل اخترت، ولم أندم على اختيارى هذا بعدها أبدًا.
 
ثانى هذه المواقف، عندما وضعت خطة بحثى، توقفت كثيرا عند الوثائق غير المنشورة، التى تخص موضوعى والموجودة داخل دار الوثائق، فخبرتى القليلة لم تُسعفنى فى معرفة هذه الوثائق أو تَسميتها، ووقتها لم يكن النت مُتاحًا بشكله الحالى فى خدمة البحث العلمى، ونظام الدار كان يُحتم على عدم دخولها إلا بعد تسجيلى للرسالة حتى يَتسنى لى الاطلاع على محتويات الدار، ورجعت إليه مرة أخرى وأنا لا أدرى كيف اتصرف، كما خشيت قليلاً من رد فعله؛ لقلة حيلتى وعدم تَمكنى من الوصول إلى المعلومات المطلوبة، فوجدته صَبورًا حنونًا كأنه والدى، وقال لى لا عليكِ وأخذ قلمًا وورقة وراح يكتب هو البيانات المطلوبة، لدرجة أنه كتب لى رقم الملف الذى سأحتاجه من الدار ويخص موضوعى، فوقفت أمامه صامتة وفى حالة ذهول، ما هذه الروعة!!، ألهذه الدرجة يكون التمكن من العلم، وعندما تَستحضره تجده أمامك!!، تَمنيت وقتها أن يأتى اليوم الذى أصبح فيه مثل هذا العالم الجليل.
 
ثالث المواقف، أنه كان دائمًا ما يُصحح لى كتاباتى فى رسالتى العلمية، بخط يدى، لم يَطلب منى يومًا أن أكتبها على الكمبيوتر؛ لكى يَتمكن من قراءتها وتصحيحها، بل أرادها دومًا بخط يدى، يقرأ ويُصحح بالقلم الأحمر، دون كللٍ أو ملل، ولم يتأفف يومًا أو يشتكى من خطى، رُغم أنه ليس بالجودة العالية التى تجعل من يقرؤه يستمتع به، ولازلت حتى اليوم احتفظ بهذه النسخة من الرسالة التى صححها لى دكتور السروجى بخط يدى ويده.
 
رابعها: حَرصه الشديد على مُراعاة تصديقى فى كل ما أزوده به من مادة علمية تَخص موضوعى، لم يُكذبنى يومًا، أو يبحث من ورائى ليتأكد هل بالفعل قُمت بهذا العمل أم لا، تاركًا لى حُرية الكتابة لا يُصادر رأيى لكنه كان يُناقشنى فيه أولاً، وإذا أقنعته يَطلب منى كتابته.
 
وأخيرًا حتى لا أُطيل فقط، عندما جاء يوم مناقشتى، كانت له كلمته فى آخر المناقشة وبعد نقد أحد الأساتذة لى من أعضاء لجنة المناقشة، وقالها بحسم وحزم "كل ما قيل من نقدٍ على رسالة يسرا، أنا أتحمله وحدى فقط، ليست هى المُذنبة، فهى نفذت تعليماتى حرفيًا"، رُغم أن هذا النقد لم يكن مُتعلقًا بمنهج الكتابة، أو حتى ما تَضمنه المتن، بل كانت أخطاء مطبعية ناتجة عن الكتابة على الكمبيوتر، تَحملها عنى ولم يَسمح لأحدٍ بأنْ يَنتقدنى، أو يُقلل من المجهود الذى قُمت به.
 
أطال الله فى عمر أستاذى العزيز، ورزقه موفور الصحة والعافية، وبارك لنا فى علمه وعمره، فهو يَخطو بعمره المديد نحو عامه المائة، وأدعو الله أن يُجازيه خيرًا عن كل عامٍ نفع فيه بعلمه طلابه، إنها مسيرة تجاوزت الثمانين عامًا بقليل، رحلة طويلة قضاها الأستاذ الدكتور محمد محمود السروجى فى محراب العلم، تعلم الكثير، وأفاد بما تعلمه، ولازال حتى يومنا هذا يُعطى عطاءً مُبهرًا، دام عطاؤكم والدى العزيز، وُدمتم لنا بكل خير.
 









مشاركة



الرجوع الى أعلى الصفحة