أكرم القصاص - علا الشافعي

محمد حبوشه

عبد الرحيم كمال .. صانع السبائك الذهبية في الدراما

الجمعة، 05 أبريل 2019 08:11 م

مشاركة

اضف تعليقاً واقرأ تعليقات القراء

لاشك أن الروائي وكاتب السيناريو المبدع "عبد الرحيم كمال" صار جواهرجري عتيق في الكتابة الدرامية فائقة الجودة، فهو لايغرقنا في كتابة نوعية من المسلسلاتٍ التي تغوص فى قضايا الجريمة والمخدرات، أو حتى مشاهد "الأكشن" والعري التي أصبحت تجذب جهمور اليوم، بل إنه يذهب بنا عبر دراما مشغولة بسبائك ذهبية إلى عوالم سحرية غاية في الروعة والجمال، خاصة عندما يكتب الدراما الصعيدية، حيث تراه مختلفًا عن الذين تصدوا لكتابة ذلك النوع من المسلسلات، حيث يمزج هو التاريخ بالجغرافيا فى "خلطة غرائبية" جميلة تدفعك "طوعا لا كراهية" على التهام مسلسلاته مشهدا مشهدا، وأغنية تلو الأخرى في حالة من الشجن المحبب إلى القلوب، كما جاء في مسلسلة الأخير"أهو ده اللي صار"، والذي فضل فيه أسلوب الحكي المتسلسل، وكأن المشهد الأول هو أهم عنصر له في كتابة الحكاية، ومن ثم تأتي بعدها تفاصيل الحكاية.

 

وعلى الرغم من أن غالبية أعماله تدور أحداثها في الصعيد، أو تلامسه بشكل أوبآخر، إلا أنها تتميز بالتنوع والاختلاف، فلا يتشابه عمل له مع آخر، كما أن غزيرة الأحداث تتوفر لديه بشكل غني، فهو قادر على خلق حكايات لم ترو من قبل عن عالم عميق ومجهول أحياناً في جنوب مصر، كما تصطبغ كتاباته بنفحات روحية وصوفية، ومن ثم تأتي في العادة شديدة الثراء والعمق والجاذبية، ولا تخلو من عذوبة وجودة واضحة إذ يرى أن التصوف هو (الحياة على طريق الحب، وأن كل أشكال الحب نابعة من تجليات العشق الإلهي، فهو يؤمن أن الله خلق الإنسان من "حب" وهو المرجعية التي تدفع البشر للتراجع عن كل الآثام والشرور).

 

ولأن عبد الرحيم كمال يتميز بـ "حوارٍ" مختلف فى كل أعماله الدرامية التي تتسم بالتشويق والإثارة المحببة، عبر لغة سهلة طيعة من فرط عذوبتها تسري بلطف على لسان أبطاله معبرة عن الحدث حاملة في طياتها فلسفة عميقة؛ لكنها فلسفة ونقد للحياة والمعنى الحقيقي للحب والحرية، وقد انعكس أسلوبه الحواري المحبب على ما ظهر فى مشاهد كثيرة في "أهو ده اللي صار" هذا العمل "الأيقونى" بمعنى الكلمة، تماما كما جاء على لسان "على بحر" الذي أداه بنعومة وشجن محبب الفنان "محمد فراج" ففى مشهد بالمسلسل يقول: "النّفر اللى مش حر.. نفر ميت.. ملوش عازة.. حُر تبقى عشت.. تعيش مش حر.. تبقى معشتش"، تأمل هذا الحوار البسيط الذي جاء بطلاقة غير معهودة كي يغنيك عن قراءة كتب ومجلداتٍ تتحدث عن المعنى الحقيقي لـ "الحرية" في مصر قبل 100 عام.

 

اعتمد "كمال" في كتابة سيناريو المسلسل على رشاقة الأسلوب والجمل الحوارية الجذابة محملة بنوع من الفلسفة والصوفية على التنقل بين الماضي والحاضر دون أدني شعور بالارتباك أو الملل، فهو ليس مثل كثيرين من كتاب السيناريو الذين يبتعدون فى أحايين كثيرة عن اللجوء لطريقة "الفلاش باك" كنوع من المخاطرة  بالعودة للوراء فى كتابة أعمالهم الدرامية، خاصةً إذا كان هذا "الفلاش باك" متبعا في جميع حلقات العمل؛ اعتقادا منه أن ذلك يتسبب حتما فى حدوث حالة من الارتباك لدي المشاهدين"، لكن عبد الرحيم كمال في "أهو ده اللي صار" قفز فوق الأسلاك الشائكة ونجح إلى حد كبير فى السيطرة على شخصيات المسلسل، من خلال انتقال سلس ومريح للغاية بين مختلف الأحداث المشحونة بالغضب تارة والمفعمة بالرومانسية تارة أخرى.

 

ومن حسن حظ عبد الرحيم كمال أنه التقى في هذا المسلسل بمخرج محترف هو "حاتم على"، صاحب مشوار حافل بالأعمال التاريخية المميزة التي قدمها في الدراما المصرية والسورية، والذي وقع - على حد قوله - في غرام الورق، واستفزه المسلسل لإخرجه فأزمانه مكتوبة بطريقة مختلفة وجديدة، وشخصياته جذابة وثرية، وبه تطور كبير في الزمان والمكان، وكلها أشياء تشكل حافزا كبيرا لأى مخرج لتقديمها، وقد حرص على صناعة لغة للكاميرا طغت على أداء الجميع، ومن ثم حاول أن يقدم السهل الممتنع، خاصة أن هذه الشخصيات مثلت تحديا كبيرا لفريق العمل من الممثلين، باعتبارها شخصيات ستعيش طويلا وتمر بمراحل عمرية مختلفة، وهو ما جعله يلجا إلى عدم الذهاب إلى صورة نمطية لممثلين قدموا أدوارا كهذه من قبل، لكن كان اتجاهه على العكس تماما ، بهدف الحصول على طريقة أداء مختلفة وطازجة بعيدا عن "الكليشيهات" المتعارف عليها.

 

ولقد ساهم إلى حد كبير في إنجاح "حاتم على" في مهمته أن شخصيات المسلسل مبتكرة، وبالتالي كانت تستلزم العودة للعصر نفسه كى يستلهم من صور فوتوغرافية، سيرة شخصيات محددة عاشت تلك الفترة وتتقاطع مع الشخصيات التي نقدمها، وهذا جزء من العمل على الشخصية والتعاون بين المخرج والممثل، لذا نجح"علي" في التخلص من واحدة من الآفات التي أصابت الدراما هذه الأيام، وهي سطوة النجم التي أتاحت له أن يصبح المرجع الأساسى في صناعة العمل الدرامى، سواء في اختيار المواضيع أو في أشكال الطرح الفنى، وفى الاستحواذ على الجزء الأكبر من ميزانية العمل، وكل ذلك يؤدى إلى وقوع الدراما في فخ النمطية، ويحاول كل نجم أن يحافظ على النجاح الذي حققه في دور ما فيعيد استنساخ ما يظن أنه يخدم مصالحه.

 

"أهو ده اللي صار"عالم خاص وفريد استطاع "عبد الرحيم كمال" أن يغنيه بالتفاصيل وحالات العشق لله وللوطن وللحبيبة، هو حالة شجن تقود إلى حب مصر القديمة والتراث والتاريخ والأجداد، بل إنه حالة حب وسلام مختلفة مكتوبة بحرفية ومهارة وحبكة موزونة، صنع من خلالها "كمال" عالمه الخاص، ذلك العالم الشاعري الصوفي الذي ينتمي إليه، فمنذ بداية الحلقة الأولى تجد نفسك أمام مقطوعات موسيقية وغنائية وكلمات نورانية ملاصقة للأحداث، "السيرة الهلالية" وربابة الريس"زكريا" وليالي الأُنس التي يُحييها "بحر" ووصلات "أصداف الغنائية الراقصة، إضافة إلى أن الأغنيات التي تخللت المسلسل والتي زادت عن 20 أغنية مختلفة، ما بين الرومانسي والتمثيلي والهابط، كما أطلق عليه في عالم الغناء جذبت الجمهور وأضافت له متعة خاصة إلى جانب الأداء التمثيلي مع عذوبة ورقة تلك الأصوات وصعوبة تلك الأغنيات التي لحنها "أمين بو حافة"، وتوزيع موسيقي "معاذ عبد الغني السيد"، وغناء "محمد طعيمة ومصطفى جمال والمطربة راماج"، وفي واحدة من مفاجآت المسلسل ظهر اسم عبد الرحيم كمال كمؤلف أيضا للطقاطيق التي احتفظت بنفس "نكهة" فترة العشرينات التي قدمت بها تلك الألوان الغنائية.

 

ونأتي إلى محطة الأداء ، وأبدأ بالنجمة "روبي" حيث لاحظت أنها ليست المرة الأولى الذي تثبت فيها قدرتها الكبيرة على الأداء الدرامي المتقن، في دور مركب غير بسيط، كونها تطل في "أهو ده الي صار" في ثلاث حالات مختلفة عن بعضها كلياً، بين الصحافية "سلمى" المليئة بالحماس في 2018، والفلاحة "نادرة" التي لبست ثوب سيدات القصر عام 1918، فأتقنت القراءة والكتابة والعزف والغناء، والشابة الرومانسية التي حكمت عليها الأقدار وفرقتها عن حبيبها، وهنا زجت "روبي" بنفسها في مواقف خيالية لحجب جميع المؤثرات الخارجية عنها، موهمة نفسها بأنها لا تمثل بل تقوم بدور حقيقي، ويبدو أنها كانت تركز في الاستماع للممثلين الآخرين في المسلسل والاستجابة لما يقولون بشكل جيد، وربما تطلب ذلك منها أيضا التركيز على كل لحظة بدلا من ملاحظة الحدث وانتظار ما سينتج عنه، الأمر الذي جعلها تتقن أداءها بطريقة احترافية تحسب لها، وتضعها في مصاف النجوم الأكثر نضوجا على المستوى الفني.

أما "أحمد داود" في دور يوسف الابن والحفيد فقد جاء على مقاس موهبته، وكان مناسبا جدا لهدوئه الذي يحمل في طياته عواصف لا تهدأ من الانفعالات التي تحكم فيها بقدرة توضح أنه استطاع أن يصقل موهبته بتعدد الأدوار التي لعبها خلال السنوات الثلاثة الماضية، بحيث أصبح ممثلا يمكنه استخدام كامل مهاراته وقدراته في التمثيل، ما يؤكد وعيه بضرورة  استخدام أكبر عدد ممكن من مناهج التمثيل حتى استقر في النهاية على واحد أو على مجموعة من تلك المناهج التي تناسب مواهبه وقدراته، على مستوى الحركة والإشارة، بالإضافة إلى ميزات الصوت التي نعني بها خصائص الشخصية الصوتية التي تتناسب مع طبيعة الدور، وهو الأمر الذي جعل "داود" يدرس متطلبات كل مشهد على حدة، حيث جاءت بعض مشاهد الرومانسية حالمة، وهذه تتطلب صوتا ناعما خافتا؛ أما المشاهد الصاخبة فتتطلب أصواتًا مرتفعة جهورية وحادة، كما حدث في مشاهد المواجهة مع حفيد "البساطي" الذي يحاول انتزاع القصر منه، وكذا مواجهته لشقيقه ووالد "سلمى" الذي كبله بكتابة القصر باسم ابنته في صفقة كشرط لاتمام الزواج.

وعلى نفس الوتيرة من الأداء الصعب يأتي "محمد فراج" بشخصية "على بحر" حيث برع في استخدامات الجسد والصوت والإيماءة والنبرة والمحافظة على التقاليد والأساليب الحرفية، وكأنه يقول لنا إن الدافع الذي يكمن وراء ذلك هو تحقيق (وحدة الأداء) انطلاقا من تقليد (النموذج المثالي) الذي يصل إليه الممثل بعد ما يكونه في خياله كشكل خارجي كامل من خلال  التمارين والذاكرة، وأثبت أن موهبته كممثل لا تكمن في الإحساس بل في ترجمة العلامات الخارجية للإحساس ترجمة أمينة دقيقة، كما يؤكد "ديدرو" ويضيف: "إن الممثل ليس مرادفا للشخصية، إنه يؤدي دورها ويحسن أداؤه بحيث تظنون أنه الشخصية ذاتها، الإيهام من أجلكم أنتم، أما هو فيعلم تماما إنه والشخصية اثنان لا واحد " هكذا فعل "فراج" مع "على بحر" في كل مراحل حياته.

ونأتي لـ "أروى جودة "التي طلت في دور "أصداف" راقصة "الكرخانة" فقد نجحت ناجاحا باهرا في تجسيد شخصية "أصداف" التي نصفتها الموهبة ولم يحالفها الحظ في الحب، وبدت لنا لأول مرة في دور بعيد عن سيدة المجتمع الراقية، كنوع من التحدي لموهبتها، كما لفتت النظر إلى قدرتها على تجسيد الأدوار الاستعراضية، لتثبت أنها ممثلة قادرة على أن تعكس التغيير أو التطور المطلوب للشخصية بجدارة، وربما نلحظ أنها بدأت دورها بوتيرة عاطفية مرتفعة أكثر من اللازم، ولكنها في الوقت ذاته لم تجد صعوبة حقيقية فيما بعد في رفع هذه الوتيرة إلى مستوى أعلى، وهكذا ينبغي على الممثلين أن يبدأوا على مهل حتى يتسنى لهم أن يكسبوا تمثيلهم قوة وتشويقًا تمشيًا مع متطلبات النص المكتوب، تماما كما فعلت "أروى" في تقديم "أصداف" كأروع أدورها على الإطلاق في الفترة الأخيرة.

لابد لي من الإشادة بأداء كل من (على الطيب "البساطي"، هشام إسماعيل "الشيخ زهار"، محمود البزاوي"زكريا"، هاني سمير سيف "جوني منصور"،عصام توفيق "هلاوي"، لاشينة لاشين "بمبة"، إلهام عبد البديع "هندية"، فقد برعوا جميعا في تجسيد الشخصيات على نحو جيد يؤكد موهبتهم الحقيقية في التمثيل الجيد، فضلا إنتاج مميز لـ "محمد مميش"، أما الحديث عن النجمة "سوسن بدر" فيبدو لي حديثا مكرورا، لأنه ببساطة لا يعطي لإبداعها المزيد من الإنصاف، كونها دائماً تتفوق على نفسها بأداء مختلف، ودور "خديجة هانم" بلاشك أضفى على تاريخها الفني بصمة راقية ونجاحاً إضافيا، إلا من بعض الهنات التي لم يساعدها فيها المكياج، فضلا عن الإجهاد الذي أفلت منها بعض المشاهد الأخيرة فجاء الأداء هابطا إلى حد ما.










مشاركة

اضف تعليقاً واقرأ تعليقات القراء
لا توجد تعليقات على الخبر
اضف تعليق

تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة





الرجوع الى أعلى الصفحة