أكرم القصاص - علا الشافعي

محمد حبوشه

التوظيف السياسي للدراما التليفزيونية ضرورة حتمية

الجمعة، 26 يونيو 2020 05:00 م

مشاركة

اضف تعليقاً واقرأ تعليقات القراء
"الفن مرآة الشعوب" هى مقولة تختزل أهمية الفن في الحضارة الإنسانية باعتباره مكنون وإبداع بشري يظهر جانبا من رؤية الإنسان لعالمه، ونظرا لدوره الرائد في العمران البشري يحظى باهتمام بالغ من جانب صانعي القرار السياسي، لذلك يرتبط بالاسترتيجيات القومية للدول في إطار السياسية الثقافية لكل بلد، وقد وعت كثير من الأنظمة الحاكمة على مر التاريخ الحديث لدور الفن في التنشئة الاجتماعية في محيطها الاجتماعي، وارتباطه في ذات الوقت بالسياق الثقافي العام وبالوضع السياسي للبلد، لذا فإنها قد أولته اهتماما خاصا (الفترة الناصرية نموذجا)، وهنا تكمن أولى خطوط التشابك بين حقلي السياسية والفن، وقد تشكلت بذرة العلاقة بين الفن والسياسة منذ زمن طويل، فقد كانت تلك العلاقة موجودة منذ أيام أفلاطون، ومع مرور الزمن أصبح الفن تابعا للكنيسة التي سيطرت على أوروبا واستخدمته في إيصال رسالتها الدينية، لكن الانقلاب في العلاقة بين الفن والسياسة بدأ مع اندلاع الثورة الفرنسية، حيث أصبح الفن يجسد روح الثورة الجديدة بدلا من أن يكون مدافعا عن سلطة الملك.
 
ولعلنا لاحظنا التوظيف السياسي من جانب أمريكا للفن والسينما على وجه التحديد في "هوليود" عبر سلاسل من الأفلام التي مهدت لكثير من الأحداث حتى تفوق فيها الواقع على الخيال، كما حدث في ضرب برجي التجارة في نيويورك 11 سبتمبر عام 2001، وذلك إنطلاقا من أن الصورة التي تقدمها السينما دائما ما تنطبع في ذهن المشاهد، وبالتالي تساهم في رسم الصورة الذهنية تجاة القضايا المختلفة؛ وهذا من شأنه أن يؤثرعلي سلوكيات الأفراد في المجتمع، وهنا يتضح دورالسينما في تشكيل الوعي العام للجماهير، وكذلك في ظل العولمة وحرية المعلومات لم تعد السينما وحدها مقتصرة على عرض القضايا وتشكيل الوعي للأفراد، بل دخلت الدراما التليفزيونية على خط المواجهة كي توضح مساوئ الأنظمة الحاكمة من ناحية، أو تقوم بتحسين صورة تلك الأنظمة من ناحية أخرى، حسبما يتجلي في توظيف النظام التركي بقيادة (أردوغان) للدراما في تحقيق مآربه، وبهذا يزداد دورالفن الدرامي بشكل عام والسينما بشكل خاص في تكوين الصورة الذهنبية من الناحية السياسية لدي الأفراد والجماعات والدول.
 
لم تعد الأعمال الفنية الدرامية والسينمائية مواد للترفيه فقط، بل إنها أصبحت تمثل إحدى أهم أدوات "القوة الناعمة" التي تمتلكها الدول وتحرص على تطويرها لدعم حضورها وربما نفوذها خارج حدودها الجغرافية، وقد تبلور توظيف صناعة السينما والدراما عالميا وإقليميا خلال السنوات القليلة الماضية بشكل كبير، لا سيما مع تطور هذه الصناعة ومواكبتها للتقنيات الحديثة، حيث اتسمت معظم الأعمال الدرامية الوافدة على وسائل الإعلام العربي بمستوى عال من الحرفية وجودة جماليات الصورة، والإخراج، والتركيز على المناطق الطبيعية الخلابة، وهو ما جذب المتلقي ناحية المتابعة لمشاهدة المزيد من عناصر الإبهار التمثيلية والجمالية، في ظل رتابة المحتوى المقدم محليا، وتدني المستوى التقني للصورة، وهى عوامل تصب في صالح هذه الأعمال الوافدة، بل هو ما ساعد في جعلها أكثر جذبا وملاءمة للتصدير إلى الخارج، وفي هذا الإطار تنوعت أهداف الأعمال السينمائية والتليفزيونية، ما بين تنشيط القطاع السياحي في دولة ما، أو تحسين الصورة الذهنية عن تلك الدولة، أو خدمة أهداف سياستها الخارجية، وغيرها من أنماط توظيف هذه الصناعة.
 
وتعد وسائل الإعلام في الإقليم هى الأكثر جذبا للدراما والسينما الواسعة الانتشار عالميا، كما أن العديد من دول المنطقة باتت من أهم مصدري هذا النوع من الأعمال الفنية للعالم، فخلال السنوات الماضية برزت الأعمال الفنية المصرية والإيرانية والتركية، واستطاعت عبور حدودها الجغرافية، كما صعدت الدراما الخليجية وانتشرت بشكل كبير في الدول العربية، في الوقت الذي استقدمت فيه وسائل الإعلام العربية دراما أجنبية، صينية وكورية ومكسيكية وهندية وكرواتية، اعتمادا على الأنماط الجديدة التي تقدمها هذه الدراما، إلى جانب تدنى محتوى بعض الأعمال الفنية المحلية المقدمة وتكرار مضمونها، وربما لاحظنا أن هنالك تطور نوعي خلال الموسمين الماضيين على المستوى العربي، ونخص بالذكر رمضان 2020 من خلال مسلسلات (الاختيار- مصر، حارس القدس - سوريا، محمد على رود – الكويت)، وكان يمكن أن ينضم إليهم (الزعيمان – ليبيا) لولا احتوائه على سموم تبثها الجماعة الإرهابية حيث لونته بلون تركي يروج للدولة العثمانية تزامنا مع ارتكابها جرائم بشعة في حق الشعوب العربية.
 
إذن لماذا نتواري نحن في المجتمع العربي قليلا وراء يافطة (لا لتوظيف الدراما في الشأن السياسي)، بينما عدونا في الشرق والغرب على حد سواء يستخدمها كسلاح قوي في تزييف التاريخ لصالحه، ويخاطب (الأغا التركي) الغرب على جناحها، كما فعل في عدة مسلسلات منها على سبيل المثال وليس الحصر: (السلطان عبد الحميد) الذي قام من خلاله بتزيف فترة حكمه للدولة العثمانية رغم أنه قد أطلق عليها (الرجل المريض) آنذاك، و(فالنتا مصطفى)، والذي يحكي عن دول الشر التي تستهدف استقرار تركيا المزعوم، علما بأنها غير موجودة سوى في خيال المؤلف، و"قيامة أرطغرل" الذي يحكي قصة مؤسس الدولة العثمانية، حاملا في طياته سموم فكر الإخوان، ومتغافلا الدور العربي في مساندة تلك الدولة العنصرية، و(أنت وطني) الذي يسرد قصة بطولة الجيش العثماني في مواجهة الجيش اليوناني في (سالونيك)، وبداية ظهور (كمال أتاتورك) مؤسس تركيا الحديثة، ومسلسل (العهد) في ذهابه نحو إظهار بطولة العسكري التركي الخارقة في الوقت الحالي في مواجهة الجماعات الإرهابية المزعومة، بينما يتواطئ "أردوغان" في الوقت ذاته معها ضد سوريا والعراق وليبيا حاليا.
 
ظني أن انتباه الدولة المصرية حاليا في توجهها نحو توظيف القوى الناعمة كما شهدنا في الدراما الرمضانية خلال الموسمين الماضيين لمصلحة السياسة هو توجه سليم للغاية، ولعل الجهد المبذول من جانب الشركة "المتحدة للخدمات الإعلامية" يوضح هذا التوجه الانتاجي الواعي، وذلك بالتعاون مع بعض الشركات العاملة في نفس المجال الإنتاجي عن طريق المشاركة في الأعمال الدرامية الوطنية التي تساهم في تشكيل الهوية وتضرب الأمثلة في البطولة والفداء، وأيضا التركيز على الأعمال الاجتماعية التي تجنح نحو "النوستالجيا"، كما ظهر في موسم رمضان 2020، وقليل من كوميديا الموقف التي استطاعت أن تعيد وجه مصر الضاحك على جناح فكاهة محببة تذكرنا بأعمالنا الخالدة في هذا المضمار، ناهيك عن أعمال الأكشن والإثارة والتشويق والرمانسية بلغة مغايرة تبعد عن الإسفاف وتذهب نحو الجدية، وتضمن المسلسلات رسائل مهمة تحمل في طياتها جوهر الفن الحقيقي مما انعكس بصورة إيجابية على المشهد الدرامي المصري هذا العام.
 
ربما جاء هذا التوجه من جانب رأس الدولة بقيادة الرئيس عبد الفتاح السيسي عبر توجيهات غير مباشرة إنطلاقا من إدراكه أنه يمكن للفن أن يكون أداة للارتقاء بوعي المتلقي، وبوعي الإنسان بأن تفتح أمامه مجالا للتذوق والإحساس بالجمال والقيم، ويمكن أيضا أن تنزلق بالمتلقي حين توغل به إلى الغرائز وجميع الإثارة والمسائل التي تصل إلي مرحلة الانهيار في الأخلاق بمستوى الفرجة، وقد نوه الرئيس إلى ذلك مرار وتكرار عبر خطاباته خلال السنوات الست الماضية، مطالبا الفن والفنانين بمراعاة الضمير لأنهم سيحاسبون أمام الله وأمام التاريخ، وهذا توجه من جانبه يشي بأن الإنتاج الفني القائم على أسس أخلاقية أنما هو يجسد الذاكرة التاريخية والبصرية والفنية، إذ تُعبر الصورة السينمائية والدرامية في التليفزيون من خلال السيناريو عمّا يحدث على أرض الواقع في زمن ما وتنقل للأجيال المقبلة أزمنة لم يتمكنوا من معايشتها في الواقع.
 
نعم تلعب السينما والدراما بكافة أشكالها دورا في التأثير على الوعي السياسي للأفراد ولكن بدرجات مختلفة، حيث السينما والمسلسلات التجارية تعمل على عرض أفلام وأعمال هابطة بلا حبكة فنية وتؤدي في النهاية إلي فساد الأخلاق كما أنها لا تستطيع أن تنتقد الواقع ولا تعمل سوى من أجل تحقيق المكاسب المادية السريعة، أما السينما الوطنية والمسلسل التليفزيوني الجاد فلهما دوركبير في نشر الوعي و الترويج للسياحة، كما أنها في الوقت ذاته تعمل علي إعادة روح الإبداع لدي الشباب ولا تحتاج إلي دور عرض كبيره حتي يشاهدها الناس، ولقد تعددت الآراء تجاه صناع السينما والدراما التليفزيونية، فهناك من يري أن صناع السينما والمسلسلات التجارية لهما دور في انتعاش الاقتصاد وعودة السينما والدراما التليفزيونية مرة أخري بعد الهبوط الذي شاهدته عقب أحداث 25 يناير 2011 لتدني الحالة الاقتصادية للمواطن، وأنها انقذت العاملين بهذا القطاع من البطالة، والبعض الآخر يري أنها فاسدة لأنها تبني مكاسبها علي حساب أخلاقيات المهنة وتستغل الظروف المجتمعية في توجيه أفلامها للشباب ومسلسلاتها لتدميرهم دون وعي وإدراك مع غياب الأهل في التوجيه.
 
على أية حال أحب أن أشير إلى غياب القوى الناعمة طويلا عن القيام بدورها في كافة القضايا المصرية والعربية، ولم نحاول أن نستغل الأعمال القيمة بالغة الأثر في تاريخ الدراما العربية - على غرار مافعل (أردوغان) في (قيامة أرطغرل) - ومنها على سبيل المثال مسلسل "التغريبة الفلسطينية" الذي تناول النكبة الفلسطينية، وهو ما يستدعي التوقف أمامه طويلا بما يحمله من وثيقة تاريخية صورت المأساة الفلسطينية منذ مطلع الثلاثينيات حتى هزيمة يونيو عام 1967، والتي تعتبر واحدة من أهم المراحل في تاريخ القضية الفلسطينية، بانعكاسها في الصراعات والتفاعلات الاجتماعية والإنسانية والسياسية بين شخوص العمل القائمة على عائلة "أحمد الشيخ يونس" الملقب بـ "أبوصالح" محور التصاعد الدرامي للأحداث، لما تمثله من انكسارات وخيبات ومحاولات جيل كامل من الفلسطينيين البحث عن خيط نجاة، وهى بالمناسبة تفوق في مستواها الفني كل المسلسلات التركية التي تمجد الدولة العثمانية حاليا.
 
 والآن وبعد مضي أكثر من 16 عاما على عرض الحلقات الأولى لـ"التغريبة الفلسطينية"، يمكن التأكيد أن شركات الإنتاج العربية لم تستطع إنتاج عمل يقدم قراءةً متوازنة لنكبة الفلسطينيين، كما حدث في العمل الذي كتبه السيناريست وليد سيف، وحمل توقيع المخرج حاتم علي، بتقديمهما نصا متكاملا وشاملا لقصة الفلسطينيين، وهو العيب الذي تفتقر إليه الدراما العربية عند الحديث عن نكبة الفلسطينيين، اللهم إلا في مسلسل "حارس القدس" الذي أنتجته الدولة السورية وعرض في رمضان 2020، والذي يركز على قصة النكبة وتداعياتها التي أدت إلى ضياع فلسطين، من خلال سيرة ذاتية للمطران "كابوجي" الذي وهب حياته للقضية.
 
لطالما كان الفن لغة قوية وعالمية لها تأثيرها في الأوساط العامة والساحات السياسية ياسادة، فمنذ بداية التاريخ حاول الفنانون التعبير عن أفكارهم وآراء الشارع حول الإجراءات السياسية غير العادلة، سواء بأدوات مرئية أو سمعية أو حركية، بغرض إيقاظ العقول المغلقة والنائمة حول الانتهاكات التي تحدث يوميا في العالم، فهو سلاح فطري يمتلكه كل إنسان ولكن كيفية استخدامه لهذا السلاح هو الهدف الرئيسي الذي ننشده عبر الأعمال الفنية البصرية،  ففي السابق كان الفلاسفة هم الذين يطورون المفاهيم النظرية الخاصة بهم من خلال تجاربهم وإسهاماتهم الخاصة الملموسة جدا والمتطرفة سياسيا في أغلب الأحوال، فالفلاسفة والفنانين هم الذين استأنفوا في الواقع هذه الأفكار، لكنهم لا يربطونها غالبا بواقعهم الراهن، ومن هنا فالفرصة سانحة الآن للتوظيف السياسي للدراما التليفزيونية الذي أصبح ضرورة حتمية.
 









مشاركة

اضف تعليقاً واقرأ تعليقات القراء
لا توجد تعليقات على الخبر
اضف تعليق

تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة





الرجوع الى أعلى الصفحة