أكرم القصاص - علا الشافعي

حازم حسين

الاتحاد والمؤتمر.. عوار الثقافة والمثقفين

الإثنين، 17 يناير 2022 01:24 م

مشاركة

اضف تعليقاً واقرأ تعليقات القراء

ما لا يُقاسُ لا يُمكنُ الحُكم عليه، والقيمُ لا جدارةَ لها من دون اختبار. باختصارٍ، لا تتحدَّث عن الشرفِ ما لم تُوضَع على محكِّ انتهاكِه وتنجح فى الامتحان. الصورةُ فى ساحة الثقافة عكسَ ذلك للأسف، يبدأ الجميع بحديثٍ المُثُل والمبادئ، وينتهون غالبًا إلى مُمارساتٍ لا علاقة لها بتلك الأحاديث. مقولة وزير دعاية النازية جوبلز "كُلَّما سمعت كلمة ثقافة تحسَّست مُسدَّسى" يُمكن بكلِّ أسفٍ أن تنطبق على كثيرٍ من سُكَّان الوسط الثقافى فى مصر!

قبل سنواتٍ تفجَّرت صراعاتٌ فى أروقة اتِّحاد الكتاب. المؤسَّسة التى دشَّنها طليعةُ المُثقَّفين المصريِّين سبعينيات القرن الماضى، سقطت فى وَحل المطامع الشخصية قبل نحو خمس سنوات، تعطلَّت الانتخاباتُ أكثر من مرَّة، وظلَّ فريق فى الإدارة بعد انقضاء مُدَدِهم، وجرى وضع الجمعية العمومية فى مواجهة القانون، وتعطيل استحقاقاتٍ بدعوى اختيار الأعضاء. نظريًّا هدأت المياه قليلاً بانعقاد انتخابات جديدة قبل أسبوعين، لكن عمليًّا ما يزالُ الاتِّحادُ مُعطَّلَ الدورِ وغائبًا عن الفِعْل الثقافى. لا يلحظُ كثيرون وجودَه، ومن يشتبكون معه إمَّا شركاء فى المنفعة أو عاجزين عن الفعل. وجميعهم يتحدَّثون عن القيم ليل نهار!

فى ضفَّةٍ أُخرى، تبدو هيئةُ قصور الثقافة مُجمَّدةً دون سببٍ واضح. الدولة ضاعفت دعمها وزادت الميزانيات، ومن يتولَّون أمر إدارتها مُثقَّفون وفنَّانون يجيدون الكلام الكبير، لكنَّك إن فتَّشت عن أثر ذلك قد لا تجدُ شيئًا. قصورٌ وبيوتٌ ومسارح مغلقة أو شِبه مُغلقة، مُبدعون ومُتلقّون لا يُمارسون أدوارَهم، ومعركةٌ مفتوحة مع التطرُّف والخطابات الأصوليَّة المُستشرية فى المجتمع، تقف المُؤسَّسة العملاقة - بمئات المُنشآت وآلاف الموظَّفين وعشرات آلاف المُبدعين والمُهتمِّين - عاجزةً عن التأثير فيها، وعن مُساندةِ الدولة فى معركةِ مصيرٍ حقيقيَّة؛ من أجل الانتقال بالبلد والناس نقلةً مدنيَّةً وعقلانيَّةً تجلى وجهَ مصر الحقيقى، وتمسح عنه غبار عقود التشدُّد وانفلات جماعات التجارة بالدين.

مجلس الشيوخ فتح الملفّ أمس، مُناقشًا اقتراحًا برغبةٍ يتلمَّسُ تعزيز دور الثقافة وزيادة فُرص نشرها بوسائل مُبتكَرة. عقدت لجنة الثقافة اجتماعًا بحضور المخرج المسرحى هشام عطوة رئيس هيئة قصور الثقافة، والمخرج خالد جلال رئيس قطاع شؤون الإنتاج الثقافى، والفنان إسماعيل مختار رئيس البيت الفنى للمسرح. الثلاثةُ أسماءٌ مُحترمة ومشهود لها فى المسرح، والحديث كان إيجابيًّا باعثًا على التفاؤل، لكنَّ الأثرَ على الأرض أقلُّ من كلِّ ما قيل. مئات العروض بين فِرَقٍ ونوادٍ وجمعيَّات تُنتجها قصور الثقافة ولا يشاهدها أحد، ناهيكَ عن أندية الأدب والطفل والمرأة شِبه الغائبة، وعن ميزانيَّاتٍ يُسوِّيها المُوظَّفون على الأوراق! مئاتُ العروض بالبيت الفنِّى للمسرح تظلُّ حبيسةَ مسارح القاهرة وعشرات المُشاهدين، بدلاً من نقلِها والطواف بها فى كلِّ رُبوع مصر، ونُدرةٌ لدور قطاع شؤون الإنتاج فى دعم الأفكار الشابة والتجارب الطليعيَّة، وتحمُّل مسؤولية الوصول بالثقافة إلى كلِّ مواطن فى أيَّة بقعة من بقاع مصر.

حالة التجميد التى أشرتُ إليها سالفًا عن قُصور الثقافة، تبدو واضحةً بأفدح صورها فى مُؤتمر أدباء مصر. الحدثُ الثقافىُّ الذى تأسَّس أوائل ثمانينيات القرن الماضى، ولم تنقطع دوراته حتى وسط مناخ الفوضى والاضطراب بين 2011 و2013. لم ينعقد المؤتمرُ مُنذ سنتين دون أسباب وجيهة، ما يرفعُ منسوبَ الشكوك تجاه نوايا إلغائه، لا سيِّما أنَّ مسؤولاً سابقًا بالهيئة قدَّم بالفِعل مشروعًا لتفكيكِه. رُبَّما يتعلَّلُ قادة "عمارات العرائس" بأزمة كورونا، لكن الحقيقة أن الدولة نظَّمت مُنتدى شباب العالم بأكثر من 20 ضعف حضور المُؤتمر، ومعرض الكتاب بنحو مليونى زائر، وشهدنا انتخابات مجلس الشيوخ، ونقابات الصحفيين والأطباء واتحاد الكتاب وغيرها. كلُّ هذا لا يتركُ متَّسعًا لمُبرِّرات الخوف من الوباء، ويجعلُ التذرُّعَ بها مُجرَّد مُحاولة لتمرير نوايا مُضمَرة تخصُّ إلغاءَ المؤتمر، أو ربّما تعطيلَ الهيئة بكاملها عن دورها الحيوىّ المطلوب.

كنتُ أمينًا عامًا لآخر دورات المؤتمر فى بورسعيد 2019. واجهت خلال الإعداد مُشكلات حقيقية فى التعامل مع مسؤولى الهيئة: فى استيعابهم لأهميَّة الثقافة ودورها، وأثر المؤتمر، وجدوى أن تجمع المُثقفين وتتنقَّل بهم فى أنحاء مصر، وضرورة أن يُعتمَد ذلك مع كلِّ أشكال المعرفة والفنّ. طلبتُ فى كلمتى الافتتاحية إعادةَ الهيكلةِ من أجل أداءٍ أفضل ودورٍ أكبر وأكثر جدوى للمُؤتمر، وقلتُ نصًّا: "ربما يكون المؤتمر فرصةً للتذكرةِ بأنَّ مصرَ المُثقَّفةَ الواعيةَ هى أنجعُ ما نُحارب به الإرهاب، وأن الثقافةَ استثمارٌ وصناعةٌ ثقيلة، ومن الخطأ أن ننظرَ إليها باعتبارها خدمةً أو ترفيهًا. إذا كانت الدولة قد أنجزت أُمورًا ملموسةً وبالغة الأهمية فى معركةِ الإرهاب، وأوشك الرصاصُ أن يتوقَّف تمامًا بعدما حُوصِر الإرهابيِّون فى كلِّ مَسلَك، فإن معركةَ الوعى أصعبُ وأطول، وما لم نتجهَّز لها بالرؤى والأفكار والتمويل الكافى، فإننا نُغامر بإهداء المُتطرِّفين مَعينًا لا ينضبُ، من الأرواحِ التى تتشقَّق عطشًا للمعرفة والثقافة والتنوير، وللأسف، تنفذُ الأفكارُ السوداء من شُقوقِها؛ لتزحمَ علينا الواقع، وتُهدِّد باختطاف المستقبل".. وصلت الرسالة لمسؤولى الهيئة بشكلٍ خاطئ على ما يبدو، فأوقفوا المُؤتمرَ بدلاً من تطويره وانتظامِه، وقلَّصوا الفعاليات عوضًا عن تكثيفها واتِّخاذها درعًا وسيفًا فى مُواجهة الظلاميِّين وأفكارهم.

لا يَصحُّ أن تُبدِّد المؤسَّسات طاقتَها وتأكلَ نفسَها، كما يحدثُ فى ملف النشر الذى تنشطُ فيه كلُّ أجنحة الوزارة، دونَ مُبرِّر مثلاً لأن يكون المجلسُ الأعلى أو صندوقُ التنمية أو قطاعُ الفنون التشكيلية ناشرين، بينما تملك الوزارةُ ناشرًا عملاقًا ومُتخصِّصًا مثل هيئة الكتاب، وما تزال توصيات لجنة توحيد النشر خارج التطبيق. ويتعيَّن النظرُ إلى فلسفة الإنتاج، وعدالةِ توزيع المُنتَج الثقافى، وأهمية الاستهداف النوعىّ زمنًا ومكانًا لكل الفئات والأطياف. وزارة الثقافة جناحٌ مُهمّ من أجنحة الدولة، وأحد أهم الأدوات التى يُمكن أن تكون عونًا للمجتمع فى تقويم نفسه واستعادة روحه الناصعة. ليس جميلاً لطوابير الهيئات وجُيوش المُوظَّفين وكلِّ صُنوف الفنَّانين والمُبدعين، أن تضطلع الأوقاف والأزهر والكنائس والمدارس والجامعات وأندية الشباب بأدوارٍ، وتكون الثقافةُ - الأقدر والأكثر كفاءة - أقلَّهم فى الجَهد والدور والأثر!

عطّلت هيئةُ قصور الثقافة مؤتمرَ أدباء مصر، وألغت مشروعًا طموحًا اسمه "مسرح الجُرن"، كان يتأسَّس على عملٍ مُكثَّف داخل مدارس مُختارةٍ بالاتّفاق مع وزارة التعليم، عبر برامج وأنشطة تشمل الشعر والموسيقى والمسرح والفنون التشكيلية، وعلى مدى سنوات انتظام المشروع ترك أثرًا نبيلاً، وأنتج مئات المواهب، والأهمّ أنّه صحَّح أفكارًا ومفاهيم مُنغلقة ورجعيَّة فى القرى وحواضن التطرُّف. وفضلاً عن تقصير مسؤولى الهيئة، تقاعست الوزارة عن إنقاذ اتِّحاد كتاب مصر وقتما استفرد به فريق من أصحاب المصالح مدعومينَ بأصوليِّين ومحسوبين على الإخوان وغيرهم. كان بمقدور المستشار القانونى للوزيرة أن يُنقذُ المؤسَّسة مُبكِّرًا من عبثِ العابثينَ واستفرادِ كلِّ هاجعٍ وناجعٍ بها. يُضافُ إلى ذلك قدرٌ من الوَهَن والعَوَار فى هيئة الكتاب وبعض ما تطبعه من عناوين مُريبة، وما يُسيطر عليها من مُجاملاتٍ و"شِلَليَّة" ودوائر مُنتفعين. ويمتدُّ الأمر إلى المجلس الأعلى للثقافة وارتباك لجانِه وجوائزه، بينما يتعيَّن أن يكون عقلاً حقيقيًّا ناضجًا، يضعُ استراتيجيَّات مصر الثقافيَّة، ويُخطِّط برامجَ ومساراتِ المُواجهة مع غُول التطرُّف والإرهاب ومن يُطعمونه ويعملون تحت قدميه.

لا أقصدُ من كلِّ ذلك أنَّ الصورةَ سوداء. المُؤسَّسات كياناتٌ اعتباريّةٌ لا تُفكِّر ولا تُقرِّر، وينوب عنها فى ذلك جهازٌ إدارىّ يتصادف أن أغلبه فى كل تلك الأماكن من المُثقَّفين. وكلُّهم يتحدَّثون عن القيم والمبادئ ودور الثقافة وأثرها، لكن عندما يتعارض هذا الحديث مع مصالحهم يصمتون، وربما يُدافعون عن الباطل. حدث الأمر فى قضيتىّ "انتهاكٍ وإنكارِ نَسَبٍ" واجهتا فنانًا تشكيليًّا وناشرًا شهيرًا. يحدث فى مُجاملات لجانِ النشر، وفى تربيطات السفر والجوائز، وفى حلقاتِ النَّميمة، وفى نظرةٍ مُبتذَلةٍ للمرأةِ يبلعُها المُثقَّفون فى الكُتب والندوات ويُفرغونها فى البارات وجلسات المقاهى، وهكذا كثيرٌ من القِيَم والشعارات. فى كلِّ زاويةٍ تلقى عينك عليها ستجد ثغرةً أو مأخذًا يُحاسَب عليه المُثقَّفون، وبينما يُواصلون الحركةَ بالإيقاع نفسِه؛ يهزُّون أُسُسَ المُؤسَّسات ويُقوِّضون دور الثقافة، والبلدُ وناسُه واقفون فى أَمَسِّ الحاجة إليها وإلى فاعليَّتها وتأثيرها. ربَّما يكونُ جيِّدًا أن نستعيدَ اتِّحادَ الكُتَّابِ من الموات، وأن نُنعشَ مُؤتمرَ أدباءِ مصر قبل انقضاء أجله. لكن الأهمّ أن نستعيد الثقافة من مخالب المُثقَّفين. حتى لا نظلَّ مُرتعبينَ نتحسَّس عُقولَنا كلَّما تكلَّم أحدُهم، أو نطقَ عكس ما يفعلُ وما نراه منه!










مشاركة

اضف تعليقاً واقرأ تعليقات القراء
لا توجد تعليقات على الخبر
اضف تعليق

تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة





الرجوع الى أعلى الصفحة