أكرم القصاص - علا الشافعي

حازم حسين

على الأرض السلام وبالناس المسرّة.. عيد ميلاد مجيد

الخميس، 06 يناير 2022 04:28 م

مشاركة

اضف تعليقاً واقرأ تعليقات القراء
(... "هو ذا العذراء تحبل وتلد ابنًا، ويدعون اسمه عِمَّانوئيل" الذي تفسيره: الله معنا) 
(متى 1: 23) 
 
 
على غير مثال فى الواقع أتى، وعلى غير مثال مضى - إلى الله فى كل الأحوال - تاركا الحب وعلامات الاستفهام صنوين فى مُساءلة الروح القلقة للحيرة الإنسانية، ولملكوت الله وعلّة إيجاد البشر، فكان ابنا بارًّا للسماء والأرض، وأبًا حريرىّ القلب للنبات والطير، وجُملة بلاغية ردّدها الحاخامات فى هياكل القدس، والقساوسة فى كنائس بيت لحم، والشيوخ على منابر مكّة والمدينة، كلٌّ وفق فصاحته وعُجمته، دون أن يختلّ المعنى والمضمون؛ فارتقى درب "الجلجثة" - موضع كنيسة القيامة الآن - على مسمع من قول اليهود لبيلاطُس البنطىّ: "اقتله، دمُه علينا وعلى أولادنا" (مت 27: 25)، وعبّق طقوس المذبح طيفًا يحوم حول القساوسة المهلّلين: "ارْتَفِعْ يَا دَيَّانَ الأَرْضِ، جَازِ صَنِيعَ الْمُسْتَكْبِرِينَ" (سفر المزامير 94: 2)، ولم يبرح محاريب المساجد، بينما الأئمّة والشيوخ يُتَبّلون لحم المنابر مُرتّلين: "إنما المسيح عيسى ابن مريم رسول الله وكلمته ألقاها إلى مريم وروح منه" (النساء 170)، وفى كلٍّ كان يسوع المسيح عيسى بن مريم الناصرى الفادى طاقة خير بين الجميع، وجسرًا عبرت عليه المحبة بين الجميع، حتى إن أبى بعضهم أو لم يمنحوه - بإرادتهم الواعية - صكّ العبور.
 
وكما تعيش بين ظهرانينا - حتى الآن - أمثولات الإصرار الإيمانى الضخم لـ"إيزيس"، التى تحدّت طاقة الشرّ فى روح "سِت"، وجمّعت أشلاء زوجها "أوزوريس" الاثنتين والأربعين، مستحضرة إيّاه من عالم الموت؛ ليمنحها قُبلة الحياة ممثّلة فى "حورس"، وكما يتغنّى العراقيون - أحفاد البابليين - بالإلهة "عشتار"، التى تخلّت عن ملكوت الأرض، وهبطت إلى العالم السُّفلى لتكون فداء وطاقة عشق وتضحية لاستعادة حبيبها "تمّوز" من عالم الأموات أيضًا، ليس غريبًا أن يتغنّى المسيحيون بمجد المسيح، وقد زرع الحب فى طينة أعجزها بنو إسرائيل عن الإنبات والإثمار والحصاد طيلة قرون.
 
الاحتفال بميلاد المسيح ومجده، الذى نشهده اليوم وفق التقويم اليوليانى الشرقى، ليس مجرد طقس دينى يخص أتباعه. هذه النظرة صحيحة فى الشق العقائدى بالطبع، لكن دلالات الميلاد والحياة وما حملته رسالة يسوع لديهم، والنبى عيسى لدينا، يتجاوز تلك النظرة. لقد كان المسيح تطورا ثوريا فى النظر إلى مسألة الاعتقاد، ونقلة نوعية فى علاقة الأرض بالسماء. تأسست على تلك النظرة كثير من القيم ومفردات الإيمان العاقلة، وبعضها تطور وفق الرؤية الإسلامية وفى مدارس الفلسفة الحديثة.
 
خلاصة ذلك أن العلاقة الإيمانية ليست براجماتية، ولا جافة كما قدمها أحبار اليهود، وإنما علاقة تكتسب وجها إنسانيا بما يحمله ذلك من معانى اندماج القلب والروح فى المعادلة، وإعلاء قيم الأخوة والتشارك الحق، ووحدة الوجود من حيث كونه رغبة السماء من الأرض ورهانها عليه. لم تعد العقيدة شأنا عرقيا مرهونا بأوهام نقاء الدم وتسلسل الأرحام فقط كما فى اليهودية، ولم تعد ظلا للسياسة وفق موازين الجغرافيا وتطلعات الامبراطوريات القديمة ووارثيها؛ وإنما مساحة فسيحة لتذويب الفوارق وقمع التمايزات واحتضان الجميع دون تعالٍ أو تفرقة. تلك الرؤية رسمتها المسيحية، وعمّقها الإسلام، وأصبحت عنوانا للإنسانية فى وجهها الحديث، منذ دخولها طور النضج وإلى الآن.
 
اليوم - بينما يحتفل قطاع غير قليل من مسيحيى العالم يتقدّمه أشقاؤنا فى مصر بالميلاد المجيد - يتجدّد النظر فى سيرة المسيح وما حمله من منظومة قيم، كانت خطوة مهمة على طريق الوجود البشرى وتطوّره. نحتفل بنبى من أولى العزم ومعجزة أكّدها اعتقادنا - نحن المسلمين - ونهنئ إخوة فى الإنسانية، وشركاء فى الوطن، كانوا دائما نعم الأخ والشريك.
 
 
بينما تدق الأجراس ويفوح البخور وتعلو الترانيم خلال ساعات. يبتهج ملايين الأقباط المصريين، ونبتهج معهم. لقد كانت المسيحية حلقة مهمة فى مسيرة الأمة المصرية وميراثها الحضارى، وما تزال. صانت كثيرا من معارف الأجداد وإبداعهم الذى عبر فى مرحلة الانتقال والتداعى أمام الاستهداف والغزو الخارجى، من اللغة المصرية القديمة إلى ابنتها القبطية. خلّدت جوانب مهمة من أدبنا وموسيقانا وإبداعنا الشعبى، حفظت العمارة والهوية، وأبقت على القطعة الخضراء من أرواحنا ممثلة فى الموالد والاحتفالات والفولكلور، وابتكرت الرهبنة وحدّثتها وفق مزيج ثرى من مفردات التصوف والعرفانية وطقوس الأجداد الأوائل. ثراء بديع اختزنته المسيحية الشرقية فى روحها، وإسهام كبير صبّته فى نهر الاجتماع والمعرفة والإيمان والوطنية والهوية. وكلها أمور محل إجلال واحتفال، ونحن نشهد اليوم إحياء ذكرى ميلاد المسيح.
 
 
نهنئ إخوة الوطن، ونهنئ أنفسنا أيضا. كنتم وما تزالون كتفا صلبا وجدارا قويا يستند إليه هذا البلد. قدمتم وما زلتم تقدمون، وحملتم رسالة المسيح بما شملته من رسائل المحبة والفداء والانتماء والإخلاص على خير صورة، فكان على الأرض السلام وبالناس المسرة، وكنتم كذلك أيضا. فكل احتفال وأنتم إخوة طيبون، وعيد ميلاد مجيد.









مشاركة

اضف تعليقاً واقرأ تعليقات القراء
لا توجد تعليقات على الخبر
اضف تعليق

تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة





الرجوع الى أعلى الصفحة