سعيد الشحات يكتب: ذات يوم 5 ديسمبر 1967.. بعد ربع قرن من الذكرى الحزينة.. الناقد الفنى كمال النجمى يكتب شهادته عن يوم احتباس صوت الشيخ محمد رفعت «أعظم القارئين جميعا»

الثلاثاء، 05 ديسمبر 2023 10:00 ص
سعيد الشحات يكتب: ذات يوم 5 ديسمبر 1967.. بعد ربع قرن من الذكرى الحزينة.. الناقد الفنى كمال النجمى يكتب شهادته عن يوم احتباس صوت الشيخ محمد رفعت «أعظم القارئين جميعا» الناقد الفنى كمال النجمى

مشاركة

اضف تعليقاً واقرأ تعليقات القراء
بعد يومين من مجيئه للقاهرة من قريته بالصعيد عام 1943 تقريبا، مشى الكاتب والناقد الفنى كمال النجمى على قدميه صباح يوم جمعة، يسأل الناس عن مسجد فاضل باشا، حتى وصل إليه وجلس على مقربة من الشيخ محمد رفعت ليستمع إلى «أعظم القارئين جميعا»، حسبما يذكر فى مقاله «أعظم صوت أحيا ليالى رمضان»، بمجلة الكواكب، عدد 853، فى 5 ديسمبر، مثل هذا اليوم، 1967.
 
يتضمن المقال شهادة «النجمى» عن آخر مرة رأى واستمع فيها مباشرة للشيخ رفعت، التى احتبس فيها صوته، فغادر المسجد باكيا مع بكاء الذين حضروا، ويصف صوته، قائلا: «لم أسمع طوال حياتى صوتا ضيق الحجم، خافتا كصوت الشيخ رفعت، يحتوى برغم ضيق حجمه وخفوته على ثمانى عشرة درجة موسيقية، أو ثمانية عشر مقاما موسيقيا سليما، ويمتد على قسمين كاملين من أقسام الأصوات الرجالية الثلاثة المعروفة عند الموسيقيين، وله فوق هذا كله استعارة صوتية عجيبة تتألف وحدها من ثلاث درجات موسيقية ساحرة، ما سمعنا مثلها حتى يومنا هذا، فاجتمعت بذلك لصوته العبقرى مساحة موسيقية هائلة تضم واحد وعشرين مقاما تقريبا، منطوية فى ذلك الحجم الضيق، كما تنطوى الطاقات الهائلة فى الذرة الصغيرة».
 
يضيف «النجمى»: «بهر الشيخ رفعت معاصريه، وملأ دنياه وشغل سماعيه، ولكنه كقارئ لم يكن موهبة صوتية باهرة فحسب، بل كان فى الحقيقة إنسانا مخصوصا لقراءة القرآن- إن صح هذا التعبير- كأنما وجد فى الدنيا ليتلو القرآن، ويرتله على الناس ترتيلا، عارضا عليهم معانيه وألفاظه من جديد.
 
كان حين التلاوة يضع قلبه فى معانى آياته، وروحه فى حروف كلماته، متدبرا ما يتلو تدبر المؤمن الورع، كأنه يرفع أمام بصيرته فى كل وقت هذا السؤال القرآنى: «أفلا يتدبرون القرآن؟»، إذا تلا آية من آيات الثواب والرحمة، رفع صوته عندها فرحان مستبشرا كأنه يستقبل رائحة الجنة، وإذا مر بآية من آيات العقاب والنقمة، سرت فى صوته الرعدة والرجفة والخشية كأنما يخشى أن يختل توازنه فوق الصراط، وكان صوته العجيب يمثل لسامع القرآن الكريم معانى التوبة والدعاء والضراعة، والتنزيه، والتسبيح، والندم، والاستغفار، وكانت دموع قلبه تجرى فى نبرات صوته، فتلاوته حزينة باكية، ووجدانه ممتلئا بهذه الآية: «إذا تتلى عليهم آيات الرحمن خروا سجدا»، كان صوته خاشعا دامعا حزينا، يستدر دموع السامعين، ويستحضر خشوعهم، وقد لبث يبكيهم ويرفق أفئدتهم بآيات الثواب والعقاب زمنا طويلا، حتى أبكاهم فى نهاية أمره على نفسه، وأسال دموعهم على صوته».
 
يتذكر «النجمى»: «فى أخريات عهده- فى منتصف الأربعينيات- أصابته حبسة فى حنجرته أثرت تأثيرا ظاهرا فى مقدرته على التحكم فى صوته العظيم بالطريقة المعجزة، التى بهر سامعيه بها عشرات السنين، قبل أن يتلو القرآن فى ميكروفون الإذاعة وبعد أن جلس أمامه، وفى المرة الأخيرة التى سمعته فيها كان يتلو سورة الكهف بمسجد فاضل باشا يوم الجمعة كعادته، فلما بلغ الآية «واضرب لهم مثلا رجلين جعلنا لأحدهما جنيتن من أعناب وحففناهما بنخل وجعلنا بينهما زرعا»، غص واحتبس صوته فى كلمتين أو ثلاثة، فسكت قليلا يقاوم ما ورد عليه من الغصة والاحتباس، ثم عاد يتلو تلاوة متقطعة، حتى ملأت الغصة حلقه وحبس صوته تماما.
 
هنا حنى الشيخ العظيم رأسه، جريح القلب، لا يدرى ماذا يصنع، ثم أخرج من جيبه زجاجة صغيرة فيها سائل أحمر، يبدو أنه دواء حضره له بعض الصيادلة، فاحتسى قليلا، ثم انتظر برهة وعاد يحاول التلاوة، فأطاعه صوته فى آيتين أو ثلاثة، ثم قهرته الغصة، وكسرت شوكة الدواء الأحمر، فتوقف الشيخ العظيم حائرا بعض الوقت، ثم غادر مجلسه تاركا إياه لشيخ آخر يتلو ما تيسر من السور».
 
يصف «النجمى» هذه اللحظة قائلا: «كانت لحظة قاسية عنيفة اهتزت لها أعصاب الحاضرين فى المسجد، فضجوا بالبكاء، ولطم بعضهم الخدود حزنا وأسفا، وارتفع صراخ المقرئين الشبان الذين كانوا يلتفون حول الشيخ العظيم كل جمعة، ليتلقنوا بعض أسرار صناعته وفنه، وبعد الصلاة خرج الناس عيونهم فيها الدموع، وقلوبهم تحف بالشيخ الحزين، لا يدرون أيواسونه أم يواسون أنفسهم؟».
 
يتذكر«النجمى» أن مقرئا صغيرا كفيفا كان يحث السامعين على الإنصات فى أول الأمر، ثم وقف فيهم خطيبا يحثهم على الصبر، ثم خانه صبره فجهش باكيا، وضج الناس وراءه باكين، ويعلق: «كلما سمعت شريطا مسجلا من تلاوة الشيخ رفعت، أفيق من نشوتى السماوية على ذلك المشهد التاريخى الرهيب منذ ربع القرن، فالمرض عطل تلك الأوتار السماوية، ثم أسكتها الموت، 9 مايو 1950، ولم يبق منها إلا ظل باهت يتمثل فى التسجيلات التى نسمعها، وأقول لكم أيها السامعون: إن هذه التسجيلات على ما بذل فيها من جهد ومال ليست إلا صورة مهتزة من ذلك الأصل الرائع العظيم الذى التقطت منه».









مشاركة



الرجوع الى أعلى الصفحة