أكرم القصاص - علا الشافعي

حازم حسين

عيد الإعلاميين ومستقبلهم.. صناعة ضخمة تبحث عن حقوقها لدى حيتان التكنولوجيا

الأربعاء، 31 مايو 2023 02:31 م

مشاركة

اضف تعليقاً واقرأ تعليقات القراء
ما تزال أدوار الإعلام عريضةً ومُؤثّرة؛ لكن ما يُنتظر منه وما يقدر على تحقيقه أكبر. بقدر الإرث الذى راكمه، والمسؤوليات المُلقاة على عاتقه، وما يتضخّم حوله من تحدّيات وأعباء؛ يحتاج منّا جميعًا إلى النظر دائمًا فى أحواله: ما كان وما يُمكن أن يكون، وحالة الانتقال من قيادة الجمهور إلى مُشاركته والتنافس معه، وكيف تحوّلت اقتصادياته من الخدمة إلى الاستثمار، ومن المنفعة الذاتية إلى ما فوق المحلية. إن ما صلح قديمًا قد لا يكون مُناسبًا اليوم، والاختبارات التى تتابعت على الصنعة الإعلامية آخر عقدين تتجاوز كل ما جرّبه فى عقوده الطويلة السابقة، وإذا كان قادرًا على العبور الهادئ إلى اللحظة، فإن ضمان السلامة وامتلاك القدرة على البقاء يتطلّبان مسالك بديلة ورؤى أعمق. نحن إزاء قيمة معنوية راسخة، وذخيرة لا غنى عنها للاجتماع والتنمية، ومن ثمّ علينا أن ننظر إلى الضغوط الناشئة باهتمام، وأن نملك زمام المبادرة لنعبر خفافًا وثقالاً من شِراك العالم الجديد، ونضمن ألا نفقد قدرًا من قوّتنا الناعمة فى رحلة العبور.
 
نشأ الإعلام من احتياج حقيقى، بمعنى أن وجوده انبنى على تحدٍّ. زاد البشر وتوسّع العُمران ففرضت الأوضاع البحث عن صيغٍ أنجع للتواصل، وهكذا بقيّة المحطات المفصلية: عندما عجز السلاح عن حسم الصراعات كانت حروب الرسائل الناعمة حلاًّ بديلاً، وكُلّما امتدّ الطموح أبعد من قدرات السفر جاء التعويض من ابتكار أدوات وطرق وصول أسهل وأسرع، وحينما قطّع الاحتلال أواصر المجتمعات قدّم نفسه رسولاً وخارطةً وجنديًّا للهوية وجذوة الغضب. رحلة الإعلام كانت كلها تحدّيات فعلاً؛ لكنها حفّزت البحث عن مسارات للأمام، بينما العقبات الآن أقرب إلى الالتفاف فى دائرة؛ إذ كسّرت النزعة «ما بعد الحداثية» خطوط الاتصال التقليدية، وفكّكت مركزية الصنعة، وأقالت «حارس البوابة» من وظيفته، وهو مسار ينسجم مع البيئات المُنتجة للتقنيات الجديدة؛ لكننا ما نزال متأخّرين شوطًا طويلاً عن اشتراطاتها. يصعب القول إن تلك الصيغة سيئة أو عديمة الفائدة؛ بل يُمكن أن تكون مُنطلقًا لديناميكية اجتماعية واقتصادية ومعرفية سريعة ومُثمرة؛ إنما السؤال عن مدى جاهزيتنا لها، وعن قدرتنا على مواكبتها بالإيقاع المطلوب.
 
قد يكون مُفيدًا، ونحن نحتفل بعيد الإعلاميين التاسع والثمانين، أن نُثير الأسئلة الواجبة عن واحد من أهم عناصر الاجتماع والدولة ومكوّنات قوّتها الشاملة. يطيب للبعض حصر المناسبة فى الراديو ثم البث المرئى لاحقًا؛ ربما انطلاقًا من اتصالها بإطلاق الإذاعة المصرية الرسمية فى 31 مايو 1934، لكنها تظل فى النهاية فرصة للاحتفاء بصنعة الإعلام على تعدُّد صورها: الصحافة التى سبقت بنحو قرن، أو التليفزيون اللاحق بأقل من ثلاثة عقود. مثّلت مسيرة الإعلام سياقًا مُرافقًا لإعادة بعث الوطنية المصرية وإرساء ركائز الدولة الحديثة، بدءًا من «الوقائع المصرية» التى كانت ثمرة طموح محلّى تلاقح مع ثقافة أوروبا عبر البعثات الدراسية، ثم مرحلة الاحتضان والتنوع الثقافى مع تجارب الشوام فى الصحافة والمسرح، ودخول المصريين على الخط، وصولاً إلى الإذاعات الأهلية وطابعها الكوزموبوليتانى، وأخيرًا جاءت الإذاعة الرسمية عنوانًا على نزوع عارم للاستقلال، بدأ بتحرير الإعلام قبل أن يُستكمل لاحقًا بالأرض.
 
محطات الإذاعة الخاصة كانت أقرب إلى فتارين تجارية. صيغة الملكية انحصرت فى شركات أو تُجّار يستهدفون أحياء محدودة من القاهرة والإسكندرية؛ إما لترويج بضائعهم أو عرض إعلانات الآخرين، مع بث لا يتجاوز 4 ساعات تقريبًا، وخريطة تُغطّى غاية التسويق بمواد ترفيهية بسيطة، ومُبتذلة أحيانًا. ربما لم تتحقّق فكرة الإعلام بطابع ناضج، يقرأ مُحيطه ويستجيب لاحتياجات جماهيره، إلا مع الإذاعة الرسمية؛ لهذا يصح التأريخ بدءًا من تلك المحطة لا قبلها. عمليًّا فرضت طبيعة الصناعة وكُلفتها الباهظة أن تتركز فى يد الدولة، وتكرّر ذلك مع التليفزيون، وظل الوضع قائمًا على حاله حتى أواخر التسعينيات، عندما دخل القطاع الخاص على استحياء. اشتدّت المنافسة لاحقًا باتّساع نطاق البث الفضائى وتحوّل طبيعة المُمارسة من خدمة وأداة تأثير فى المقام الأول، إلى استثمار ومُعادلة جدوى وربح؛ ورغم ذلك ظلت اللعبة مُتوازنة، انطلاقًا من عدالة السباق مع قدرٍ مُوحّد من المزايا والأعباء. الآن تغيّرت اقتصادات الصنعة، وبات بإمكان لاعبين لا حصر لهم نزول الساحة من دون تكلفة تُذكر، والتنافس على كل الفرص والمكاسب المُمكنة، وإحراز أهداف سهلة فى أعتى المؤسَّسات وأكثرها رصانة!
اضطرت هيئة الإذاعة البريطانية لوقف عدد من خدماتها، والتعويض عن بعضها بمسارات بثٍ رقمية حصرًا. توقفت صحف عريقة فى دول عدّة، وتواجه غيرها ضغوطًا قاسية؛ لم يعد الأمر دائرًا فى نطاق الحديث عن الربح أو تأمين كُلفة التشغيل، بقدر ما يتركّز على كيفية ترشيد الخسائر. دفعت الأوضاع المختلة كثيرًا من الناشرين ومُنتجى المحتوى التقليديين إلى البحث عن حقوقهم الضائعة لدى أباطرة التكنولوجيا، وتدخّلت حكومات لتقليص الفجوة عبر إجراءات تنفيذية أو معارك قضائية، كما جرى فى أستراليا وبعض دول أوروبا، بينما تُسدِّد أغلب المنصّات العملاقة ضرائبها فى وجهات محدودة، ولصالح مجتمعات غير التى تربّحت منها. الإعلام العربى ليس بعيدًا من المعاناة، لكن ربما تُتيح الملاءة المالية لكثير من اللافتات الإقليمية أن تستمر رغم اختلال المعادلة؛ بينما تتطلّب البيئة المحلية البحث عن أُطرٍ أكثر تطوّرًا وكفاءة لإنهاء حالة التغوّل الرقمية على مؤسَّسات الإعلام، واستيفاء حقوقها: إن بالمنافسة العادلة أو بالتعويض عن الانتفاع من جهدها. قد يكون الطريق إلى ذلك صعبًا، لا سيما مع صعوبة إنفاذ القوانين المحلية على شركات عالمية عابرة للجغرافيا وضوابط الأسواق المعتادة؛ لكن الأمر يستحق المحاولة.
 
لا تعود الصيغة الناشئة إلى نمط الأداء أو طبيعة الرسائل الإعلامية.. رسمية BBC لم تكن مبعث معاناتها، وعراقة صحيفة «فينر تسايتونج» النمساوية لم تعصمها من مرارة التوقّف الاضطرارى. والحال نفسه فى اندبندنت واكسبريس ونسخة وول ستريت جورنال لأوروبا، وخسائر سنوية بمئات ملايين الدولارات فى أسواق لا يضيق مجالها العام، ولا يُمكن الاحتجاج عليها بسجالات الحرية والكبت، كما أن مقابل الانصراف عن المنصّات التقليدية يتّسع رواج مُحتواها المقرصن عبر حسابات الأفراد فى الشبكات الاجتماعية. تبدو الأزمة أوسع من مسألة التزام الإعلام مُحدّدات دوره أو انحرافه عنها، لتمتد إلى تغيّر أنماط إنتاج المحتوى واستهلاكه، وأولويات المُتلقّين، وإلى البيئة الاستحوازية وأثر البدائل التى وفّرتها العزلة النامية فى أحضان «الواقع الافتراضى». هنا تبرز الحاجة إلى رسم الحدود؛ على الأقل حتى يصبح النمو الرقمى المتسارع مربوطًا بأعباء تتكافأ مع ما يُحقّقه من عوائد، وما يجنيه المُتحكّمون فيه من أرباح.. ربما يتجاهل قادة الإعلام الاجتماعى أنهم ينزحون مكاسبهم من فائض القيمة الذى يُراكمه الإعلام التقليدى، وإلى أن يستوعبوا ذلك، ويؤمنوا بالمصالح المشتركة، فلا بديل عن تدخُّل الحكومات لتنظيم العلاقة.
 
فى الحالة المصرية، فرضت الأوضاع الاقتصادية ضغوطًا على الإنفاق الموجّه للدعاية والتسويق، وهو مُتغيّر كان بالإمكان استيعابه إذا غابت المُؤثّرات الخارجية. المشكلة أن المنصّات الرقمية باتت مُنافسًا مُباشرًا على الكعكة، انطلاقًا من كثافة مضامينها، واستحواذها على أغلب الجمهور وساعات طويلة من أوقاتهم، ومن دون أعباء تشغيل أو ضريبة أو مُقابل مُجزٍ وموضوعى لمُنتجى المحتوى. هكذا يتيسّر لها أن تُتيح معروضًا واسعًا من الخدمات، يستقطب حصّة ضخمة من الميزانيات الإعلانية بين كل المستويات والشرائح، بدءًا من ربّة منزل تُروّج مُنتجات يدوية بسيطة، وصولاً إلى مراكز استثمار ضخمة فى الصناعة والتجارة والعقار، بينما انجرار المؤسَّسات الكبرى للمُنافسة فى تلك الساحة يضرّ عوائدها، ويُهدد وجودها الواقعى، ويضعها بالكامل تحت رحمة أباطرة رقميّون خارج الحدود ولا تعنيهم مُعادلات السوق الوطنية. ما حدث أضرّ قطاع الإعلان كاملاً، فلا ينحصر الأمر فى الوكالات والصحف وقنوات التليفزيون، إنما يمتد إلى المكاتب الصغيرة والمطابع وصُنّاع اللافتات والمطويّات. أثر ذلك يُهدّد الإعلام فى المقدّمة، لكنه يُؤثر على وظائف ومجالات أخرى من زوايا غير مُباشرة، وعلى القيمة المُضافة الحقيقية، ومداخيل قطاعات عديدة، وما يتفرّع عن ذلك من تراجعٍ فى القوة الشرائية ومستويات الإنفاق المُتاحة. قد يكون التدخُّل المطلوب طوق نجاة للإعلام؛ لكنه يصب أيضًا فى صالح الاقتصاد الوطنى بوجه عام.
 
عيد الإعلاميين مُناسبة لاستعادة تاريخ مهنة عريقة، وإسهامها الراسخ فى مسار الوطنية المصرية وصيانة الهوية وبناء الوعى. كما أنه فرصة للإشارة إلى أن إيقاع العالم من حولنا بات أسرع ممّا اعتدنا، ونحتاج إلى مواكبته بمزيد من الأفكار والخطط، وبتأهيل الكوادر وصقل قدراتهم وفق صيغة حيوية مُستدامة، وتلك مهمّة يتعيّن أن تبدأ من الحواضن التعليمية، بإعادة هيكلة كليات الإعلام وتطوير المناهج وآليات التدريس، وكثير منها للأسف ما يزال على حالة النشأة، وتطوير المؤسَّسات القومية وحوكمة المنصات الصغيرة والمواقع الشعبوية، وتفعيل مواثيق الشرف وأعراف الممارسة المنضبطة، فضلاً عن إعلاء معيار الكفاءة وتجديد الدماء دوريًّا، وأن تضطلع نقابتا الإعلاميين والصحفيين بأدوار مُباشرة فى التدريب والمحاسبة وضبط الأداء، وفى ترقية قدرات مُنتسبيها ورفع صلاحيتهم للمنافسة داخليًّا وخارجيًّا، والدفاع عن الصنعة بكل مكوّناتها، وأوّلها المُؤسَّسات، بما تُمثّله من بنية أساسية للمهنة، ومنظومة علاقات اقتصادية لا يزدهر الإعلام إلا بازدهارها. قبل فترة تحرّكت الحكومة باعتماد صيغة ضريبية لتنظيم العلاقة مع مُنتجى المحتوى المحلّيين، قد يتفق البعض مع الخطوة أو يختلف آخرون؛ لكن المنصّات التى تجنى أرباحها من جيوبنا لا يصح أن تظل بعيدة عن اقتسام الأعباء، أو الإخضاع للمُحاسبة وفق منظومة قوانين وطنية تُراعى توازن العلاقة بين المُنخرطين فى السوق. 
 
مرّت تسعة عقود تقريبًا على الانطلاقة الحقيقية لإعلام وطنى ناضج، والجهود مُتّصلة للحفاظ على ميراثه وتعزيز ركائزه. فى المقابل، تتغوّل المنصات الرقمية ضد الجميع، وما يعنينا ألا يستمر النهب المنظّم لجهود صُنّاع الإعلام لصالح دائرة احتكار ضيّقة يحكمها غيلان التكنولوجيا، يعتصرون جهدنا ويضعون أولوياتهم فوق مصالحنا، وبينما يتشدّدون فى التصدّى للأكاذيب والشائعات والاستغلال السياسى لمنصاتهم بالخارج، يُشجّعون الفوضى ويُمكّنون خطابات العداء والتطرف فى بيئاتنا، ويُمارسون وصاية التصنيف والتحجيم والوصم على رسائل لصالح غيرها، وهو أمر لا يُمكن النظر إليه بتجرّد عن احتمالية الاستهداف المقصود، وإن تعالى البعض على أحاديث المُؤامرة وتنوّعاتها.. حتى لو كان الطريق إلى الإلزام محفوفًا بمصاعب التنظيم والتطبيق، فإن مستقبل الإعلام المصرى يستحق التجربة. مرّت تسعة عقود، ومن أجل العبور إلى مثلها علينا أن نستنقذ حقوقنا من مخالب منظومة السطو الرقمى.









مشاركة

اضف تعليقاً واقرأ تعليقات القراء
لا توجد تعليقات على الخبر
اضف تعليق

تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة





الرجوع الى أعلى الصفحة