أكرم القصاص - علا الشافعي

حازم حسين

علب الصفيح وثقافة الفهلوة.. "التوك توك" يطارد الاقتصاد ويُربك سوق العمل

الثلاثاء، 06 يونيو 2023 12:06 م

مشاركة

اضف تعليقاً واقرأ تعليقات القراء
«مفيش صنايعية ولا عمالة، وكل ما نعلّم حد يسيبنا ويروح يشتغل على توك توك».. شكوى مُتكرّرة سمعتها مرارًا طوال شهور، أطرافها أصحاب ورش ومصانع صغيرة ومُقاولو بناء وتشطيبات؛ حتى أن الأمر بدا أقرب إلى ظاهرةٍ، ينصرف فيها حرفيّون وعُمّال عن مجالاتهم المُؤهّلين فيها، للالتحاق بمهنة لا تحتاج أية مُؤهّلات، ولا تلزمهم بشىء تقريبًا، وبمقدورهم أن يفعلوا فيها ما يشاؤون دون رقابة أو مُحاسبة. رغم قائمة طويلة من سلبيات «التوك توك» الثقيلة اجتماعيًّا وتنظيميًّا، يظل نزح الكوادر الفنية والأيدى المُدرّبة أخطر الآثار، ويستوجب البحث عن حلول جادة؛ لكبح تغوّل علب الصفيح المُتحرّكة على كثير من المهن ومُكوّنات الاقتصاد، ووقف مُطاردتها الخطرة والخانقة لسوق العمل ومجالاتها المُنتجة.
 
ربما لا يكون الظرف مواتيًا للحديث عن إنهاء الظاهرة تمامًا، أو حتى استكمال مُخطّط الإحلال، والتعويض بمركبات بديلة تسدّ طلب خدمات النقل الخفيف فى الهوامش والأطراف؛ لكن الوضعية الراهنة، وأى ضرورة غيرها، لا يمكن أن تلغى الحديث عن أهمية ترشيد تأثيرات الحالة القائمة على الأمن والاقتصاد، والبنية الاجتماعية التى تتلقّى الضربات تباعًا، وتعانى جرّاء الانفلات؛ ولو كابر البعض أو حاولوا تسطيح الموقف. إذا كنا مُضطرّين لمُراعاة أبعادٍ معيشية تتصل بثقل الظروف المحلية وانعكاسات الأزمات الدولية؛ فليس أقل من وضع ضوابط ومعايير لتحجيم الارتدادات السيئة، وضمان ألا تتوحّش ثقافة الزحام والعشوائية لتفترس الفضاء العام وحقوق الدولة والأفراد. الحل أن يُوضع «مجتمع التكاتك» تحت بصر المؤسَّسات، لا أن يظل خارج الحصر والرقابة كحاله الآن.
 
لا تنحصر الأزمة فى تضخّم الأعداد وكثافة العاملين، مع ما يتفرّع من عمالة أطفال، أو أنشطة غير مشروعة وتوفير غطاء للخارجين على القانون؛ نتيجة غياب الرقابة والإحكام والبيئة القانونية السليمة لإدارة المجال، لكن الأخطر أن «التوك توك» يُقدّم مُؤشِّرات مُضلِّلة عن حالة الاقتصاد وسوق العمل، سواء نسب البطالة أو أصحاب الأعمال والأنشطة غير المُسجّلة وخريطة الدخل والإنفاق. تلك الغابة الشاسعة من المُلّاك والسائقين والمعاونين فى الجراجات والحراسة والصيانة وقطع الغيار والإكسسوارات وغيرها، تقع بكاملها تقريبًا خارج رقعة الرصد. نحن أمام سوق ضخمة لا نعلم عنها شيئًا؛ باستثناء أثرها الفوضوى فى الشارع، وانعكاسها السلبى على نواحٍ اقتصادية أخرى، وخروقاتها الأمنية المُتكرّرة. الضبط والتقنين والحوكمة حاجات ضرورية، وليست رفاهية إطلاقًا، ولن تكون قيدًا على المُتربحين من النشاط؛ إنما ستُوفّر قاعدة شرعية تضمن الأمن وتُحجِّم الانفلات.
 
ليس سهلاً الجَزم بأعداد المركبات على وجه دقيق. لا نملك حصرًا، وتلك واحدة من مُسبّبات الانزعاج. قالت الحكومة منتصف 2021 إنها فى حدود 2.5 مليون، يقل المُرخّص فيها عن 10 %، بعدها بخمسة شهور قدّرت ما تُعرف بـ«رابطة مالكى التكاتك» العدد بـ5.4 مليون. بين تهوين الحكومة وتهويل المُلّاك، إذا أخذنا مُتوسّطًا حسابيًّا فقد نكون بصدد 4 ملايين «توك توك» تملأ ربوع مصر، دون التزام أو قيدٍ أو آليات ردع. لو افترضنا أن كل مركبة يُشغلّها فرد وتُحقّق 200 جنيه فقط يوميًّا، رغم أن أرقام الشارع أكبر، فنحن إزاء 4 ملايين سائق وعوائد يومية بنحو 800 مليون جنيه، ومع حالات يعمل فيها أكثر من فرد على المركبة أو يمتد العمل ورديّتين بالتناوب، فكل هامش تصحيح بـ10% يُضيف 400 ألف سائق و80 مليون جنيه، وآلافًا من فنّيى الميكانيكا والسروجيّة وتجّار الكماليات وغيرهم. قبالة السوق الضخمة وتدفُّقاتها النقدية، تتقلّص قطاعات حيوية وتقل إيراداتها؛ بفعل المنافسة غير المتكافئة إلى درجة سَحب العمالة وتجفيف أنشطة، ما يُهدّد بانقراض بعض المهن، وتلك شكوى حالية فى دوائر صنايعية الأحجار ونحّاتى الرخام وبعض مجالات الخراطة وتشكيل المعادن نموذجًا.
 
لا يعود الأمر إلى أن «التوك توك» يُوفّر دخلاً أعلى مقابل القطاع الخاص والحرفيّين، كما قد يتوهّم البعض. لا شك فى أن ذلك يتحقّق أحيانًا، إنما فى الأغلب يعود تفضيله من المنصرفين عن المصانع والورش والمهن الحرّة، إلى البحث عن الراحة فى نشاطٍ غير مُجهد، وإلى التحلُّل من قيود الالتزام بصيغة عمل وضوابط ومواعيد؛ بينما يُتيح البديل حالة فوضوية لا تحرمهم الخمول، ولا تُقيّدهم بنظامٍ صارم، وتسمح بأن يُديروا يومهم كما يريدون، وأن يصبحوا أصحاب عمل يفرضون سطوتهم على المستهلك النهائى، بدلاً من خضوعهم لإرادة أرباب عملهم الآخرين، وإلى ذلك يُمكن أن يُحقّقوا المكاسب المُعتادة بمسؤولية أقل، مع هامش أكبر للفراغ وجلسات المقاهى. فى كثير من الأحوال لا يكون التحوّل بديلاً لتحسين الدخل؛ إنما وسيلة أيسر للبقاء عند نفس النقطة. يتخيّل الفرد أنه يُحرز غايته الكاملة؛ لكن يحدث ذلك من دون أية قيمة مُضافة حقيقية.
 
بدأت الظاهرة بالعام 2005، وعلى مدار سنوات توزّعت حصص السوق بانحرافٍ، بدا كما لو كان مُوجّهًا لصالح لاعب بعينه. شركة واحدة كانت تحتكر 90 % من التداولات، وسجّل «التوك توك» قرابة 20 % من إيراداتها و10 % من الأرباح، ولم يكن تغاضى الدولة عن الملف قبل 18 سنة، وغضّ طرفها أمام تصاعدها واستفحال آثارها أمرًا مفهومًا. حتمًا لا يُمكن القطع بأن الأمر وقتها، أو لاحقًا، شابه فسادٌ أو مصالح داخل المؤسَّسات، فربما كانت الحالة بكاملها نتاج إهمال أو عشوائية فى القرار؛ المهم أن طريق الفوضى التى رُسمت بداياتها من حكومة الدكتور أحمد نظيف امتدّت وتوسَّعت، وندفع ثمنها الآن، وربما لسنوات طويلة مُقبلة.
 
شقّت الدولة مسار المواجهة منذ 2014 بالقرار الوزارى 417 القاضى بوقف استيرادها للاتجار، وجرت فى النهر مياه تهدأ حينًا وتعلو أحيانًا، وصولاً إلى تجديد موقف الحصار بقرار وزيرة التجارة 533 لسنة 2021، انطلاقًا من خطّة شاملة لتطوير النقل وإتاحة مركبات آمنة وإحلال سيارات «فان» بدلاً من «التوك توك». بعدها بعام تقريبًا أصدرت مصلحة الجمارك منشور الاستيراد 37 لسنة 2022، باستثناء المركبات المُصنّعة داخل المناطق الاقتصادية ذات الطبيعة الخاصة. الحال الآن أن المعروض الجديد يملأ الأسواق، سواء من المخزون والتصنيع المحلى أو بالتحايل على الحظر، وتتراوح الأسعار بين 75 و110 آلاف جنيه للجديد، ومن 40 لـ85 ألفًا للمُستعمل حسب الحالة وسنة الصنع. تضخّمت أسعار كُتل الحديد المُفتقدة لأية معايير أمن وسلامة، واستمر طلب الباحثين عن مشروع مُجزٍ من دون إجراءات والتزامات ومسؤولية قانونية، وتضاعفت أرباح التجّار والمُستوردين والسماسرة، وصدّروا جميعًا مشكلتهم العصيّة وفوضاهم المُستحكمة للدولة والمجتمع.
 
تعيش ظاهرة «التوك توك» على ثقافة الزحام، وتُغذّيها. بما تحمله من ضيقٍ وانفلات ينعكسان على النفس والسلوك، ومن رغبةٍ فى كسر الأعراف وشعورٍ بسلامة العاقبة، وتترافق معها حالة «فهلوة» قوامها مُناورة القانون وتحقيق منفعة دون أعباء. كثيرون قد يسلكون المسار مُضطرّين؛ وأكثر منهم يتعاملون معه بمنطق لا يخلو من استباحة الفضاء العام، ولا يرى أن عليه التزامًا تجاه الجوار الواسع. هكذا يُعبّئ الأطفال المواقف العشوائية وكراسى السائقين، ويستتر الجميع وراء مجهولية مركبات لا تحمل أوراقًا ثبوتية، وتشيع مُمارسات تبدأ من الفوضى والتعدّى على المرور، وتصل إلى المخدرات والبلطجة وفُحش القول وتهديد العابرين والزبائن. القراءة الاجتماعية لن تعزل الحالة عن تحوّلات المجتمع خلال نصف القرن الأخير، ولا عن الانفلات الفج بعد 2011؛ فلا يختلف انتهاك «علب الصفيح» للشارع عن مخالفات البناء وتعديات الأراضى الزراعية والأسواق العشوائية. كل محاولة للتنظيم قد تواجه عقبات قانونية ومجتمعية؛ لكنها ضريبة واجبة سنُسدّدها بالكامل، مهما تأخّرنا فى ولوج المسار الاضطرارى الصعب.
 
لا يُمكن النظر إلى «التوك توك» وثقافته المُربكة بوصفه حلًّا لاتساع العمران ونمو احتياجات النقل، بمعزلٍ كامل عمّا يُنتجه من مشكلات أو يُعمّق به غيرها. نحن إزاء حالة نشأت عن مصالح المُستوردين أوّلاً، لا من احتياج الشارع، لهذا ظلّت تتمدّد سنوات دون تقدير آثارها، أو اهتمام بانعكاسها الثقيل على بنية المجتمع وعلاقاته وأنماط كسبه ومعيشته. الآن أصبحت الظاهرة تجسيدًا لشبكة مصالح مُعقّدة، وعبئًا على السوق والناس بأكبر ممّا تُوفّره من خدمة، والحلّ أن يُعاد النظر للملف من زاوية شاملة، تربط الاجتماعى بالاقتصادى والقانونى والثقافى، وتُرتّب التزامات واضحة على أطراف المنظومة، وتُحصّن المجال المشترك بين المواطنين دون خصمٍ من فريق لصالح آخر، وهو التوازن الدقيق الذى لن يتحقّق إلا بالتقنين، وتجفيف الامتيازات المجانية، والعودة إلى منطق أنه لا نشاط دون ضوابط ولا مزايا دون أعباء.
 
حوكمة القطاع تبدأ بإعطائه وضعًا قانونيًّا مُنضبطًا. يسمح ذلك بالرصد والرقابة والحساب على الأخطاء، ويحمى الشارع من الانفلات، ويُحاصر عمالة الأطفال والأشقياء، وإلى ذلك يرفع كُلفة التجربة؛ حتى تكون المنافسة عادلة مع الأنشطة الحرفية وبقية أنماط العمل، فلا تطغى راحة «التوك توك» وتخفّيه عن عين القانون على احتياجات الإنتاج والتنمية، ولا نحصد أرقامًا مُضلّلة تضيف إلى المُتعطّلين على غير الحقيقة. الأفضل أن يُنظَّم النشاط بقانون مُحكم، وأن تكون التراخيص من المرور لا المحليات، وتحديد مُهلة لتوفيق الأوضاع ووقف عمل المركبات غير المرخصة، مع حصر حركتها فى الوصلات الفرعية والشوارع الجانبية بعيدًا عن قلب المدينة ومحاورها الأساسية، ومتابعة رخص القيادة ووضع صيغة للمُخالفات والغرامات، وحصر المُرتبطين بالقطاع وابتكار آلية للتسجيل أو التأمين، تسمح بالوصول إلى مُؤشّرت مُدقّقة عن قوّة العمل ومستويات الدخل والإنفاق. قد لا تكون كل تلك الإجراءات ميسورة فى القريب، وربما تُوجب بعض الاعتبارات قدرًا مرحليًّا من التساهل؛ إنما فى المُجمل يتعيّن أن يُوضع الملف محلّ الدرس والعناية.
 
يعيش كثيرون داخل «سوق التكاتك» وعلى تخومه، ولا نُنكر ذلك أو ننفى أهميّته؛ لكن قطاعات اقتصادية أخرى تُعانى وتختنق بفعل إغرائه بالسهولة وجاذبيته المُنفلتة من أى قيد، وإلى ذلك يُغذّى ثقافة الزحام ويُوجّه ضربات قاسية لبِنية المجتمع وأعرافه، وفى أقل ما يثبت عليه أنه باب لاستغلال الأطفال واستيعاب الخارجين على القانون وانفلات الخُلق وترويع الآمنين، وكلها تُوجب التدخّل؛ بالتنظيم الدائم أو الضبط المُؤقّت حسبما يستوعب الظرف. يُمكن البحث عن آلية لتأهيل العاملين، وعن دور للمؤسَّسات الأهلية والمحلّيات ودوائر الشرطة والعُمد وشيوخ القرى ووجهائها، وعن تعويض سوق العمل ببرامج تدريب وإعداد مهنيّة؛ لكننا سنصل لاحقًا إلى محطّة لا مفر فيها من التصدّى الحاسم لثقافة الفهلوة، وعلاج أمراض الزحام والفوضى، وتحصين الاقتصاد وسوق العمل من غزو «علب الصفيح» الطائشة.
 









مشاركة

اضف تعليقاً واقرأ تعليقات القراء
لا توجد تعليقات على الخبر
اضف تعليق

تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة





الرجوع الى أعلى الصفحة