أحمد إبراهيم الشريف

السلام عليكم يا شَريف

السبت، 05 أغسطس 2023 09:02 ص

مشاركة

اضف تعليقاً واقرأ تعليقات القراء
عندما كان أقاربي يحفرون قبر أبي، عليه رحمة الله،  مر رجل غريب الحال معروف عنه أنه هجر الدنيا وسكن المقابر، ينام فيها ليله ويعيش فيها نهاره،  وسأل: من المتوفي؟ قالوا له: إبراهيم على محمد الشريف، فقال الرجل: ربنا يرحمه كان رجلًا طيبًا. 
 
نعم كان أبي المتوفي، منذ أيام قليلة، رجلًا طيبًا فعلًا، لا يرى في الأشياء إلا أطيبها وأرقها وأحسنها، أفضل الناس عنده هم الطيبون، البسطاء، الذين لا يمكرون، كان رؤوفا بكل شيء، بنا نحن أولاده، وبنباتات حقله وحيوانات حظيرته، عندما كنت أتصل به لأسأله: كيف حالك فى الحر القاسي؟ لا يحدثني عن نفسه، بل يجيبنى بأن هذا الحر سيجعل القمح يفرط حَبَّه فى الأرض ويُمرض الحيوانات. وإن سألته كيف حالك فى البرد؟ يرد هذا الصقيع سيؤذي البرسيم ويُرقد الماشية؟ رأفته بمن حوله هي مفتاح شخصيته، فالأطفال أحبابه لأنهم صغار لا يعرفون شيئًا، والكبار معذورون لأن الدنيا صعبة على الجميع، والطيور المحلقة فى السماء "غلابة" فلا مكان تذهب إليه.
 
كنا منذ صغرنا نساعد أبي فى حقله، لكنه لم يقسُ علينا أبدًا، عموما لم أر أبي يقسو أبدًا على شيء، لا إنسان ولا حيوان، كان ذهابنا إلى الحقل معه ممتعًا وشيقا كأنها رحلة، وعندما ننسجم معه يغني لنا بصوته الجميل من السيرة الهلالية حكايات بطله المفضل "عامر الخفاجي" وابنته الحزينة "دوابة".
 
صنع لنا أبي منذ صغرنا عالما حافلًا بالمودة، لا نجلس معه على طعام إلا والضحك والمرح سيدا الوقت، يشكر لله أن جمعنا على مائدة واحدة، وليس مهمًا ما الموجود عليها إن كثيرًا شكر وإن قليلًا شكر، هو يحمد الله على رزقه الواسع أن جعلنا نجلس معًا ونأكل معًا، لا تفارق الابتسامة وجهه، يلقى الناس بشوشًا كأنما سيعطونه شيئًا، يحب من يحبه ويزيد، وعلى طول السنوات التي عشتها مع أبي دائمًا ما أجد له أصدقاء يحبونه، يأتون ليجلسوا معه أمام البيت، يشربون الشاي ويتحدثون عن أحوال الدنيا، ويتذكرون قصصهم القديمة وحكاياتهم الماضية، لكننى لم أره أبدًا فى مجلس سوء، ولم أشهده فى موقف مخجل أو مشين، ولم أسمع أنه اشترك فى مؤامرة أو حتى نميمة، كان مرحًا محبًا للحياة، كلما أمسكت فى نفسي محبة للحياة قلت "ورثتها عن أبي".
 
ولم أر فى حياتي من يثق فى المستقبل مثل أبي، منذ كنا صغارًا نمسك فى "كُم جلبابه" أو نجرى حوله، وهو يرانا سننجح ونحقق ما يجعله سعيدًا، وعلى الرغم من كونه لم يذهب يومًا إلى مدرسة، كان يرى أن التعليم هو ما سيأخذ بأيدينا إلى غدٍ أفضل، كان يحدثنا عما ينتظرنا كأنه يراه من عين سحرية، وظل إلى النهاية يوصينا بالتماسك معا، وأن نظل على قلب رجل واحد، ويقول لنا لا خسارة تلقاها فى حياتك إلا خسارتك لأخيك.
 
ومن الرائع والمعروف فى حياة أبي محبته لأمي وثقته بها، كان يتبعها بناظريه أينما ذهبت، ولا يدخل البيت طالما لم تكن فيه، يوصينا بها خيرًا، ويقول هي فعلت لكم الكثير، عمومًا كان أبي يحترم النساء فلا يخاطب امرأة إلا ويقول لها "يا ست" ويقصد بها "يا هانم"، وفى جنازته كانت النساء الكبيرات والصغيرات يبكينه ويقلن "من يقول لنا يا ست من بعده"، وأذكر فى صغري كان أبي يخاطب امرأة، كانت تعيش تقريبا فى الحقول، امرأة عصبية تخرج من مشاجرة لتدخل فى أخرى، تعمل فى الحقل مثل رجل، رأيته يقول لها "يا ست" ويحترمها كما لم يفعل أحد من قبل، قلت له مستنكرا: كيف تقول لفلانة يا ست؟ فقال "كل امرأة تعمل وتشقى فى بيتها أو حقلها ست".
 
لم أر مثل أبي في "وصله لرحمه"،  إنه على قلة مشاركته واختلاطه بالناس وانشغاله بنا وبأرضه كان دائم السعي في زيارة أقاربه،  دائم الذهاب لأخواته البنات،  فهو ولد وحيد ولديه أخوات كن يعشقنه، يذهبن حيث يذهب، ويملن حيث يميل،  أتذكر إحدى عماتي وكانت تسكن قريبة منا،  على الطريق العمومي،  كانت كل صباح تجلس أمام بيتها تنتظر مرور أبي،  إن لم يظهر حتى الظهر أرسلت من يسأل عنه، إن لم يظهر حتى العصر جاءت بنفسها تسعى إليه تقول له: "لم أرك اليوم"، كان أخواته البنات ينظرن إليه كما تنظر أم لطفلها،  وهو يحبهن كأنهن بناته، وطالما حملنا ثمار الأرض وذهبنا معه إلى أبناء خالاته فى القرى البعيدة كي يهديهم من هدايا الله.
 
أذكر ذات مرة، كان يذهب كل يوم لزيارة عمة له، وقد كبرت فى السن حتى أصابها داء النسيان، يجلس إليها لكنها فجأة تنادي ابنها "يا علي آتني بإبراهيم .. أريد إبراهيم" فيقول لها ابنها "إنه يجلس أمامك منذ ساعة" أقول لأبي "ولماذا تتعب نفسك وتذهب إليها وهي نسيت كل شيء؟" يقول لي "عمتى.. وسأزورها كل يوم".
 
ومنذ صغرنا كنا ندرك نعمة الأمن التي استطاع أبي أن يظللنا بها، فنحن نعيش فى قرية صعيدية في بيئة حافلة بالصراعات ومسيجة بالقتل والدم، لكنه استطاع طول عمره أن يحمينا من ذلك، أتذكر فى بدايات التسعينيات، كانت القرية مشتعلة بسبب جريمة قتل، وكنا نحن نذهب لنروي أرضنا فى الليل، تقريبا كنا نحن الأسرة الوحيدة القادرة على فعل ذلك، وبينما نحن نعمل بهمة يمر علينا القتلة الهاربون أو الناس الساعون للأخذ بثأرهم ملثمين يحملون بنادقهم، كل مر وفد منهم رفعوا أيديهم وخاطبوا أبي "السلام عليكم يا شَريف".
 
خسارتك كبيرة يا أبي، فأنت شريكي فى كل شيء، لا ذكرى إلا وأنت فيها، لا فرح ولا حزن إلا وأنت شاهد عليه، نعم، أصعب الخسارات أن تخسر إنسانًا يحبك.
 
وأعترف أنني حتى هذه الحظة أقف مندهشًا من نفسي فلا أصدق أن أبي مات، عليه رحمة الله، بل أظنه دخل حقله ليعمل صباحًا وعصرًا ومساءً، كما كان يفعل فى حياته، يتأمل ما رزقه الله من نعم فيحمده ويواصل العمل.








الموضوعات المتعلقة


مشاركة

اضف تعليقاً واقرأ تعليقات القراء
لا توجد تعليقات على الخبر
اضف تعليق

تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة





الرجوع الى أعلى الصفحة