بيشوى رمزى

عبقرية مليحة.. شمولية تتجاوز الدراما التقليدية

الأحد، 31 مارس 2024 11:30 ص

مشاركة

اضف تعليقاً واقرأ تعليقات القراء

تبدو الدراما الرمضانية، في هذا الموسم، أشبه بمجموعة من الرحلات، التي يخوضها المشاهد، عبر الزمن، بدءً من مسلسل "الحشاشين"، والذي ذهب بنا إلى طائفة، يرجع تاريخها إلى مئات السنين، لتكشف بذور الفكر المتطرف الذي استلهمته جماعات الظلام، مرورا بـ"يحي وكنوز"، والذي يطوف بأطفالنا في رحلة تمزج بين الحاضر، وما يحيط به من مؤامرات لطمس التاريخ وتشويهه، والماضي، بما حمل من أمجاد وحضارة، تتحاكى بها الأجيال من كل حد وصوب، في حين يبقى مسلسل "مليحة"، رحلة أخرى، لأهم القضايا الإقليمية، وأطولها أمدا، وأكثرها تعقيدا، وهي القضية الفلسطينية، لتحمل هي الأخرى مزيجا آخر، بين الجانب الوثائقي، تجلى في قصة يرويها الجد للحفيد، مع بداية كل حلقة، ومعها مجموعة من الصور النادرة، والجانب الدرامي، المتمثل في قصة تلك الفتاة التي يبدو أن اسمها، والذي يحمل عنوان المسلسل نفسه، تجسيدا للهوية الفلسطينية.


عبقرية "مليحة"، تتجلى في واقع الأمر، في العديد من الأبعاد، أبرزها توقيت عرضه، تزامنا مع عدوان إسرائيلي غاشم يأكل قلوب الأمهات على أبنائهن، ويسفك دماء الشيوخ والأطفال والنساء، دون رحمة، بينما يبدو في بعد آخر في كونه يقدم مزيجا بين التوثيق، والدراما، على النحو سالف الذكر، مما يساهم ليس فقط في كشف حقائق مجردة، تدور حول عدم شرعية الاحتلال وانتهاكاته، وهي الأمور التي بات يدركها القاصي والداني، وإنما أيضا في تفنيد ادعاءاته، التي أطلقها منذ بداية العدوان، عبر تسليط الضوء على مرجعيتها التاريخية، سواء فيما يتعلق بمخططات التهجير، والتي تعد هدفا قديما، وليس حديث العهد، مرورا بذريعة الدفاع عن النفس، التي طالما روج لها الاحتلال لتبرير مجازره بحق الفلسطينيين، عبر الكشف عما ارتكبه من مجازر سابقة في الماضي، دون سبب سوى التعطش لمزيد من الدماء، وحتى الاستيلاء على الأرض، وطمس حقوق أصحابها.


المزج بين الخط الدرامي والتوثيقي، ليس البعد الوحيد الذي يمكن رصده مع الوهلة الأولى للعمل الفني، وإنما أيضا هناك خطوط فنية أخرى، تتجسد في أغنية "التتر"، التي حملت هي الأخرى مزيجا بين الفلكلور الفلسطيني، بينما تمتزج الصورة بين رقصات فلسطينية (رقصة أصحاب الأرض)، مع ظهور لافت لأحد المعابد الجنائزية المصرية، لتخرج منه فتاة مصرية، لتقدم الدعم لحنظلة، رمز المقاومة الفلسطينية، عبر رقصتها الفرعونية، فتعيده إلى الحياة مجددا، ليخرج بعدها إله الحرب عند المصريين القدماء، لينتصر في نهاية المطاف لأصحاب الأرض، بينما يدفن هؤلاء اللصوص تحتها.


ولعل أهم ما يميز "مليحة" هو قدرته على بناء جدار آخر من الصمود، في مواجهة آلة الاحتلال الإسرائيلي، تتجسد في البعد الفني، والذي يمثل أحد أهم الأدوات التي أزعجت الدولة العبرية منذ نشأتها، في كل صوره، سواء عبر الغناء، بدءً من السيدة أم كلثوم، والتي طافت العالم لجمع التبرعات لدعم المجهود الحربي، في أعقاب نكسة 1967، لتتغنى أمام العالم عن تاريخ الدولة الصامدة أمام التحديات، فتأسر القلوب، مرورا بالسيدة فيروز، التي ألهبت المشاعر عندما أطلقت صيحتها "القدس لنا"، متوعدة بـ"الغاضب الساطع"، بينما لعبت الدراما دورا هي الأخرى، عبر تجسيد ملحمات خاضها أبطال مصريين في مواجهة الموساد ورجاله، على غرار "رأفت الهجان"، و"دموع في عيون وقحة" وغيرهما.


وفي الواقع، فإن الأعمال الفنية المذكورة، تسببت في ارتباك الاحتلال، في انعكاس صريح لهشاشته، حتى أن مسؤولين إسرائيليين أبدوا شماتتهم في وفاة شعبان عبد الرحيم، في ديسمبر 2019، في تغريدات على موقع "تويتر" سابقا، على خلفية أغنيته الشهيرة "أنا بكره إسرائيل"، وهو ما يعكس قوة الفن كأحد أدوات الصمود، حتى وإن كان في أبسط صوره، بسبب قدرته على اختراق مشاعر العامة، من البسطاء.


إلا أن "مليحة" هو صورة جديدة، للدراما ودورها في دعم القضية الأهم إقليميا، عبر ترسيخ العديد من المفاهيم، لدى المتابع، أبرزها دحض الأكاذيب التي يروجها الاحتلال، بينما تعزز في اللحظة نفسها أن القضية ليس قضية الفلسطينيين فقط، وإنما هي قضية العرب، وفي القلب منهم مصر، والتي تبقى الداعم الأكبر والأهم للقضية، منذ اللحظة الأولي، وبالتالي فلن تتخلى عنها إطلاقا، وهو ما يعكس الطبيعة المتنوعة للرسائل التي أطلقتها مصر دعما للقضية الفلسطينية، بين السياسة والدبلوماسية منذ اندلاع العدوان، وهي جوانب الخطاب الرسمي، بينما حمل المسلسل جانبا آخر، عبر مخاطبة الشعوب أنفسهم، بحقيقة القضية وطبيعة الحق الفلسطيني.


وهنا يمكننا القول بأن "مليحة" يعد عملا فنيا بامتياز، يتجاوز البعد الدرامي التقليدي، فهو يتسم بشموليته، بين التوثيق والدراما، والغناء، والفلكلور، بينما يحمل طابعا سياسيا، عبر تعزيز صمود الفلسطينيين، من خلال تقديم رسالة لهم بالتضامن مع قضيتهم، في حين يقدم رسالة أخرى، للعالم لتوضيح الحقائق التاريخية، ودحض الأكاذيب التي طالما انجروا وراءها، وهو ما يعكس أننا أمام عمل فني استثنائي للغاية، في لحظة أكثر استثنائية في تاريخ القضية المعقدة.

 










مشاركة

اضف تعليقاً واقرأ تعليقات القراء
لا توجد تعليقات على الخبر
اضف تعليق

تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة





الرجوع الى أعلى الصفحة