قتل الأب على "فيسبوك".. الشباب يرفعون شعار"جيل قتلنا بسكوته والآن يقتلنا بصوته"..فى فرنسا هتف أبناء الجيل الجديد: "المستقبل لنا فنحن أفضل منكم" ..وفى تونس هتفوا: "ثورة شباب.. كيف يحكمها الشياب؟"

الأربعاء، 31 ديسمبر 2014 10:33 ص
قتل الأب على "فيسبوك".. الشباب يرفعون شعار"جيل قتلنا بسكوته والآن يقتلنا بصوته"..فى فرنسا هتف أبناء الجيل الجديد: "المستقبل لنا فنحن أفضل منكم" ..وفى تونس هتفوا: "ثورة شباب.. كيف يحكمها الشياب؟" قتل الأب - صورة تعبيرية
كتب - وائل السمرى

مشاركة

اضف تعليقاً واقرأ تعليقات القراء
- انحسرت تجارب الشباب العربى فى "قتل الأب" بالسخرية من مقولات الكبار وتحريف الأمثال الشعبية دون صناعة أفق جديد لمجتمع يحركه الغضب

- تقرير كلية دبى للإدارة الحكومية أكد أن الشباب يشكلون "أغلبية دستورية" على مواقع التواصل الاجتماعى

- المجتمع البدائى وقع فى الفوضى بعد قتل الأب وأعادوا فيما بينهم الاعتراف بقوانين الأب ومحرماته رغبة منهم فى النجاة

- المفكر هشام شرابى : "النظام الأبوى" مهيمن عربيا سواء على نطاق العائلة أو الوطن ومن الخطورة "قتل الأب" فى مجتمعاتنا

وكأنه واحد من أفراد الأسرة العربية، صار موقع التواصل الاجتماعى "فيسبوك" ملازما للجميع، به نصحو وعليه ننام، صار هو الصاحب فى السفر والإقامة، وتحول مع مرور الوقت من إحدى وسائل التواصل الاجتماعى إلى مجتمع قائم بذاته، ثم أصبح لاعبا أساسيا فى العديد من مجالات الحياة، سواء فى السياسة أو فى الاقتصاد أو الحروب والنزاعات، ولما كانت المنطقة العربية على وجه الخصوص من أكثر مناطق العالم تأثرا بالحركات الاحتجاجية التى كان "فيسبوك" أحد أهم وسائلها فصار من الواجب أن نتأمل هذه الظاهرة باعتباره أداة للتعبير عن تحولات اجتماعية كبرى تشهدها المنطقة لتجسد مفهوما جديدا لرفض الصيغة الحالية لتشكيل المجتمع العربى، أو ما يمكن أن نطلق عليه أنه "أحدث صيحة لنظرية قتل الأب".

ولا يحق لنا أن نبدأ فى قراءة واقع ظاهرة الـ"فيسبوك" دون أن نلتفت إلى أهمية التقرير الذى أصدرته كلية دبى للإدارة الحكومية الذى أكد أن الشباب هم السكان الأصليون لموقع التواصل الاجتماعى الأشهر "فيس بوك"، فقد ازداد عدد مستخدمى وسائل التواصل الاجتماعى فى العالم العربى وبلغ حده الأقصى لدى شريحة الشباب بين أعمار 15 و29 سنة، وبهذا يمكننا أن نعتبر أن الشباب يشكلون ما يمكن أن نطلق عليه "أغلبية دستورية" على موقع "فيس بوك" إذ إن نسبة أعمار من هم دون الثلاثين وفقا لهذا التقرير تقترب من 70%.. فهؤلاء الشباب قادة المستقبل وعماده، وهنا يمكننا أن نعتبر موقع "فيس بوك" هو البلورة السحرية، التى تمكننا أن نرى المستقبل إذا ما تأملناها جيدا فحسب.

الفيس بوك حامل الخريطة الجينية للمستقبل

وقبل أن نستعرض "الحالة العامة" لمجتمع "فيس بوك" الذى يعد وفقا للإحصائية السابقة "حامل الخريطة الجينية للمستقبل" لابد هنا أن نشير إلى الطبيعة الخاصة لتكوين المجتمع العربى والذى يوصف بأنه "مجتمع أبوى" بامتياز، يقوم على فكرة روابط الدم والعرق والقبيلة، ويعتمد على "التلقين والإذعان فى مناهج تربيته ويقدس الموروث -دون تأمل فى كثير من الأحيان- وليس أدل على توغل النظام الأبوى واعتبار "الأب" هو المرجعية الأولى فى المجتمع العربى من إطلاق لفظ "رب الأسرة" على الأب، بما يعمق من مفهوم الأبوية ويجعله مقاربا "للربوبية" من حيث القدسية والتعالى، وفى كتابه الشهير "النظام الأبوى وإشكالية تخلف المجتمع العربى" يؤكد المفكر هشام شرابى أنه لا مفر من إعادة النظر فى كل شىء، فلم يعد بالإمكان الهرب نحو أحلام "التراث" أو أساطير الخلاص الغيبية أو يد "الثورة" فلا بد من الانطلاق من الواقع ذاته، فالعالم كله تغير خلال الثلاثين والأربعين سنة الأخيرة، ولم نتغير نحن: لم نتغير فى أسلوب تفكيرنا (القومى أو الثورى) ولا فى نظام علاقاتنا الاجتماعية والسياسية (على صعيد العائلة، المجتمع، الدولة)، ولا فى طريقة ممارستنا التى مازالت مرتبطة بالقيم العشائرية والعائلية وبالأهداف الدينية والغيبية). ويفسر "شرابي" فكرة هيمنة "الأب" فى المجتمع العربى مؤكدا أن "النظام الأبوى" يتمدد من محيط الأسرة ليشمل محيط المجتمع ككل فيصبح الأب هو المحور، الذى تنتظم حوله العائلة أو الوطن وتصبح إرادة الأب- فى العائلة أو الوطن- هى الإرادة المطلقة وما على الأبناء سوى الطاعة وإلا فالقمع هو البديل.

فى مصر وتونس.. هنا فرنسا 1968

والمجتمع العربى وفقا لهذا الطرح يعيش حاليًا أجواء أشبه بالأجواء التى عاشها المجتمع الفرنسى فى ستينيات القرن الماضى، إبان ما يسمى بحركة الطلاب فى فرنسا وفقا لبعض وجهات النظر أو الثورة الفرنسية الشبابية، وفقا لوجهات النظر الأخرى، فقد كان الشباب الفرنسى يعانى من بعض الإشكاليات الاجتماعية والسياسية التى تتشابه إلى حد بعيد مع ما يعانيه بعض الشباب فى دول "الربيع العربى" فقد امتلأت شوارع فرنسا بالشباب الغاضب رفضا للاستبداد، والقهر، والاستعباد، وتوحش رأس المال، والنفاق الاجتماعى، والجمود العقائدى، وقد انضم إلى تلك الحركة مفكرون كبار مثل " سارتر، وميشيل فوكو وجيل دولوز" إيمانًا منهم بأهمية تجديد المجتمع لسياساته وثوابته، وعلى حد قول دانييل كوهن بنديت أحد قادة التحرك الشبابى الذى فجرت حادثة تقديمه لمجلس التأديب ثورة الطلاب، فإن حركة الطلاب فى 1968 كانت حركة عالمية، وعملية تحديث للمجتمع يقودها جيل ما بعد الحرب.

وبحسب ما ترجمه الباحثان "حسام هاب ويوسف الكلاخى" فى دراستهما المعنونة بـ"قراءة فى ثورة ماى 1968 الطلابية" والمنشورة فى موقع مركز الدراسات العلمانية فقد قال "كوهن" إن هذا الجيل – يقصد جيل مايو 1968- رأى أن الذين عاشوا الحرب لديهم رؤية منغلقة بالكامل بالنسبة للعالم والمجتمع والأخلاق، منغلقة لدرجة العجز عن طرح المستقبل، ولهذا السبب الوحيد حدث الانفجار.. ويستكمل "كوهين" حديثه قائلا: كنا نقول فى ماى 1968 إن المستقبل ملك لنا فنحن أفضل بكثير من الجيل السابق، وما يزعجنا هو عدم فهمه لأى شىء، كنا نقول اتركونا نقوم بعمل الأشياء، اتركونا نصغها، وسيكون ذلك أفضل"، ولذلك فإن من الممكن أن نعتبر حركة الطلاب فى مايو 1968 بشائر لثورة اجتماعية أو على حد تعبير إغناسيو رامونى مدير جريدة لوموند "ثورة ثقافية بتعابير سياسية" ويذكرنا قول "كوهين" بما تداوله بالمقولة التى انتشرت على موقع التواصل الاجتماعى "فيسبوك" فى مصر لتجسد تلك الحالة من فقدان الأمل فى الجيل القديم من قبل الجيل الجديد، حيث تداول العديد من مستخدمى هذا الموقع مقولة نصها "جيل قتلنا بسكوته والآن يقتلنا بصوته"، وذلك فى تعبير صارخ عن الغضب العارم من الجيل "القديم"، الذى تهافت على صناديق الاقتراع فى استفتاء "مارس 2011" على التعديلات الدستورية، التى اقترحها المجلس الأعلى للقوات المسلحة ووافقت عليه كل الأحزاب الإسلامية، ثم أتت النتيجة لتقر بالتعديلات المقترحة فى حين أن الشباب كانوا يريدون كتابة دستور جديد الكلية، كما يذكرنا قول "كوهن" بالجملة التى كتبها الشباب التونسى على الحوائط وفى الميادين من جملة دالة على رفض حكم "كبار السن" حيث قال "ثورة شباب.. كيف يحكمها الشيَّاب".

حيثما وجد "الأب" وجدت نظرية لقتل الأب

ما سبق هو ملمح واحد من ملامح التمرد على "الأب" على مواقع التواصل الاجتماعى، وهى الظاهرة التى يطلق عليها علماء النفس وعلماء الاجتماع اسم "قتل الأب" وفيها رصد المفكرون على مر العصور إحدى آليات تجديد المجتمع لنفسه عن طريق رفض القيم الأخلاقية الماضية والأطر السياسية والاجتماعية وأحيانا الدينية التى لا تنتمى إلى العصر الحاضر، وبالتالى محاولة بناء مجتمع جديد، وقبل أن نستعرض مظاهر "قتل الأب" على مواقع التواصل الاجتماعى لابد هنا أن نلقى نظرة على تلك النظرية وتجلياتها فى الفكر الإنسانى عامة والأوروبى خاصة، فقد احتفل المجتمع الأوروبى بأدبيات التمرد على "الأب" وكل ما يمثل سلطة مطلقة فى الحياة، وهذا خلاف ما تم فى الأدبيات العربية، التى حرمت دوما فكرة "الخروج" على الأنظمة الاجتماعية أو السياسية القائمة، فقد اعتبرت الأدبيات الغربية "بروميثيوس"، الذى سرق النار من الآلهة، كما فى مسرحية "اسخيليوس" (525 ق.م - 456 ق.م.) بطلا، فى حين أن الأدبيات العربية اعتبرت أى "خروج" على الأنظمة القائمة "مروقا" وألصقت بأبطال هذا "الخروج" ما تيسر من الصفات المذمومة؟
مشهد من مسرحية أوديب
مشهد من مسرحية أوديب

ولنظرية قتل الأب جذور عميقة فى المجتمع الإنسانى، وربما تعود لما قبل عصر أسخيليوس بآلاف السنين، بل من الممكن نقول إنه حيثما وجد "أب" وجدت نظرية لـ"قتل الأب" لكن يعد العالم النفسى الشهير "سيجموند فرويد" أحد أهم من نظروا لهذه القضية فقد حاول عبر أبحاث عديدة أن يرسخ لهذه النظرية المعروفة بـ"قتل الأب" معتمدا على مسرحية "أوديب ملكا" للشاعر اليونانى "سوفوكليس" حيث افترض فرويد أن بداخل كل "رجل" أوديب" يحاول أن يقتل أباه ويتزوج من أمه، كما حدث فى المسرحية، وسرعان ما أصبح لهذه النظرية ظلالا كبيرة سواء فى السياسة أو المجتمع أو الفلسفة، وبدأت تطبيقات هذه النظرية فى التنامى على العديد من الإسهامات الأدبية والفكرية الكبرى فى التاريخ الإنسانى، حيث مثل صوت الفيلسوف الألمانى "فريدريك نيتشة" (1844- 1900) أحد أشد الأصوات وضوحا فى التعبير عن رفض كل الأطر السياسية والاجتماعية والدينية والمعرفية، التى ورثها الإنسان عن أسلافه وليس أدل على هذا من صيحته الشهيرة التى أطلقها فى مؤلفه العميق "هكذا تكلم زارادشت" عن موت الآلهة، متوافقا فى ذلك مع ما طرحه الأديب الروسى فيودور دوستويفسكى (1821 -1881) فى روايته الشهيرة "الإخوة كارامازوف" حول رغبة أحد الأبطال فى قتل "الأب" وهو ما أفرد له "فرويد" العديد من القراءات المستفيضة.

 نيتشة<br>
نيتشة

فى الأعماق.. الصورة أوضح

ما سبق هو التعبير الحديث عن نظرية "قتل الأب" فى الأدب والسياسية والمجتمع فى العصر الحديث، لكن حتى نقف على الأبعاد الإنسانية الخالصة لتلك النظرية علينا أن ننظر مليا إلى محاضرات سيجموند فرويد، التى جمعت فى كتاب "الطوطم والتابو" والتى استعرض فيها تلك الفكرة باستفاضة معتمدا على ملاحظات علماء الأنثروبولوجى حول تصرفات التجمعات البدائية فى أستراليا وآسيا وإفريقيا ليستشف منها مرجعيات السلوك الإنسانى الخالصة، مؤكدا أن قتل الأب هو الجريمة الأساسية والأولى للبشرية وللفرد وقد سببت لدى البشرية شعورا عميقا بالذنب تبعته رغبة عارمة للتكفير عن الذنب، فالأطفال والشباب يشعرون بأحاسيس متناقضة حيال الأب، فمن ناحية تسيطر عليهم الكراهية من وجود الأب لأنه يحرمهم من "تحقيق الذات"، ومن ثم يرغبون فى قتله ليفسحوا لأنفسهم مجالا، كما يشعرون فى الوقت نفسه بالمحبة والمودة تجاهه وهو ما يؤدى إلى الشعور بالذنب فيما بعد، ويستشهد فرويد بداروين قائلا "لقد استنتج داروين من العادات المعيشية لدى القرود الراقية أن الإنسان عاش بالأصل فى تجمعات صغيرة، حيث كانت غيرة الذكر الأكبر سنا والأقوى تعيق من فكرة الإباحية الجنسية"، وهو ما يعنى إعاقة وصول الأبناء إلى إقامة عمليات جنسية مع أفراد التجمع وذلك لوجود الأب المهمين على كل شىء.

وبحسب فرويد فإن الإنسان فى هذه المرحلة من تاريخ البشرية تمكن من قتل أبيه رغبة منه فى أن يستمتع بكل المحظورات التى حظرها الأب، وليخترق كل القوانين التى سنها الأب وأجبره على الامتثال إليها، لكنه بعد أن قتله شعر شعورا عارما بالذنب تبعه إضفاء هالة من التقديس على هذا الأب وقوانينه، ثم تخيل أن روح الأب حلت فى أحد الكائنات الموجدة فى هذا المجتمع سواء كانت طائرا أو حيوانا أو نباتا فقدسها وحرم صيدها وأكلها، وهو الكائن الذى يطلق عليه اسم "الطوطم"، لكن فى يوم معين يتجمع أفراد القبيلة ويحتفلون بقتل الطوطم وأكل لحمه وعظامه وشرب دمه ويمارسون بعض الطقوس الماجنة فيقلدون أصوات الطوطم وحركاته كما لو أنهم يؤكدون على أنهم منه وأنه منهم، وبعد هذه الفعلة يبكون ويتصايحون على "القتيل"، ويقيمون الحداد، ويعقب هذا الحداد إقامة الأفراح والاحتفالات ويفسر فرويد هذا الطقس قائلا، إن هذا الحيوان فى الواقع هو الأب وإن ما يحدث فى تلك الاحتفالات ما هى إلا محاكاة لما حدث فى الماضى أثناء الجريمة الأولى، حينما اتحد الأخوة المشردون وقتلوا أباهم والتهموه ليحققوا فكرة التماثل معه ولكى يمتلك كل واحد منهم قطعة من قوته، وبذلك تشكل أول عيد للبشرية، غير أن القصة لم تنته عند هذا الحد، وحسبما يقول فرويد فى "الطوطم والتابو" فقد اكتشف الأخوة "القتلة": إن الحاجة الجنسية لا توحد الرجال بل تقسمهم، فصار كل واحد فيهم غريم لأخيه، وأراد كل واحد فيهم أن يمتلك كل نساء الأب، ومن هنا وقع المجتمع كله فى فوضى واضطراب، وأعادوا فيما بينهم الاعتراف بقوانين الأب ومحرماته رغبة منهم فى إنقاذ المجتمع من الهلاك.
 فرويد<br>
فرويد


قتل جماعى للأب على الفيس بوك

بالطبع طقوس كهذه وعادات كهذه تبدو غريبة الآن عن واقعنا ومجتمعنا، لكن من يتأمل ما يدور فى صفحات الفيس بوك سيتأكد من أن تلك الحفلة البدائية، التى يقتل فيها الإنسان أبيه ماديا ومعنويا مازالت قائمة على الأخص فى منطقتنا العربية، التى عاشت قرونا طويلة تقدس النظام الأبوى وتحرم التمرد عليه، فبرغم أن المجتمع العربى لم يشهد تلك التحولات العاصفة فى علاقة الآباء بالأبناء، كما حدث فى أوروبا، وأن معظم نضالاته وحركاته الاحتجاجية كانت ضد سلطة غاشمة أو احتلال أجنبى لكن على ما يبدو فإننا نعيش اليوم ما عاشته فرنسا فى 1968، حيث فقد الأبناء إيمانهم بالآباء، ويجوز لنا أن نقول إن ساحات الفيس بوك تشهد الآن أكبر حالة "قتل جماعى" للأب على عدة مستويات تماماـ كما فعل الإنسان البدائى وأخوته، بل ومع مرور الأيام تحول "فيس بوك" إلى منظومة من القيم البديلة السلطوية ليستولى على "دور الأب" دون أن يقدم ميزة واحدة من ميزاته.

 مظاهرات الطلاب فى فرنسا<br>
مظاهرات الطلاب فى فرنسا


حالة تمرد يعيشها قطاع عريض من مستخدمى موقع التواصل الاجتماعى تنبذ العديد من الأطر الأخلاقية والاجتماعية والدينية والسياسية والثقافية والشعبية، التى تحكم المجتمع العربى، وليس أدل على هذا التمرد من تأسيس حركة سياسية مصرية ساعدت فى إقصاء حكم جماعة الإخوان المسلمين عن حكم مصر تحمل ذات الاسم "حركة تمرد"، التى استجاب إليها قطاع عريض من الشعب المصرى وعن طريقها تنامت الدعوة لتظاهرات 30 يونيو التى كانت كالقشة التى قصمت ظهر جماعة الإخوان بما تمثله تلك الجماعة من قيم تقليدية قديمة أهمها "الإذعان والتلقين والطاعة" أى أنها تمثل تكثيفا لأكثر ما فى "الأب" من خصام منفرة للأجيال الحديثة.

اغتيال الأب الرسمى والشعبى

ولو اتخذنا من مصر نموذجًا لهذه الحالة على اعتبار أنها أكبر الدولة العربية من حيث التعداد السكانى والتأثير الإقليمى سنجد أنها تمثل أوضح الأمثلة لتلك الحالة، فقد أصبح من الشائع أن يتم الترويج لكل ما هو غير مألوف وكل ما يحاول أن يكسر المتعارف عليه أو على الأقل يشاكله، فقد أصبح عاديا أن نجد الكثير من التعليقات التى تحتوى على سباب علنى بألفاظ جارحة، لا فرق فى هذا بين النخبة والعامة، كما انتشرت الصفحات الإلحادية بشكل لافت للنظر، ناهيك عن أن الفيس بوك كان المحرك الأساسى لأغلب الحركات الاحتجاجية فى العالم العربي، وبالطبع فى وسط هذه الحالة صار من النادر أن ترى أحدا يستخدم اللغة العربية الفصحى للتعبير عما بداخله، فى الحقيقة لا يمكن أن نقرأ تلك الحالة من التمرد على الفيس بوك دون أن نربطها بتجربة المدونات التى كانت سابقة فى كسر تلك التابوهات المتعددة، لكن المدونات ظلت بعيدة عن شرائح اجتماعية كبيرة ولم تتمكن من إحداث تلك النقلة الاجتماعية الكبرى.

هنا سنتأمل حالتين فحسب من حالات قتل الأب على فيس بوك، الأولى حالة السخرية من الموروث الرسمى من مقولات للفلاسفة والآباء والقادة السياسيين، والثانية حالة السخرية من الموروث الشعبى متمثلا فى الأمثال الشعبية الدارجة، فقد انتشرت فى مئات الصفحات على موقع التواصل الاجتماعى "فيس بوك" ظاهرة السخرية من الشخصيات الكبرى فى التاريخ والفن والثقافة، عن طريق عمل صورة للكاتب مزيلة بكلمة منسوبة إليه وموقعة باسمه، وحينما تقرأ تلك الكلمة تكتشف أنها تسخر من تلك الشخصية أو تسخر من المقولة أو تسخر من المجتمع عبر تلك المقولة، فقد صار أمرا عاديا أن ترى صورة لنعوم تشومسكى وبها كلمة تقول "جتها نيلة اللى عايزة خلف" أو صورة أخرى لإسحق نيوتن وبها كلمة تقول "ادحرج واجرى يا رمان وتعالى على حجرى يا رمان" وموقعة باسم "إسحق نيوتن قبل سقوط التفاحة" أو ترى صورة للزعيم الوطنى مصطفى كامل وبجوارها كلمة نصها "عم قول يارب" أو ترى صورة للملك فاروق وبجوارها كلمة تقول "إحنا الشقاوة فينا بس ربنا هادينا" أو صورة أخرى لماو تسى تونغ تقول "كل شيء فى العالم من الصين إلا "الكرم" من الشرقية" وصار مألوفا أيضًا أن ترى هيلارى كلينون وهى تتقمص دور ربة الأسرة أو الجراح العالمى مجدى يعقوب وهو يأمر متابعيه باتباع إحدى وصفات العلاج البلدية أو ترى شكسبير يقول "كله بالحنية يفك" والملاحظ من الانشار الكبير لتلك المقولات المزيفة لكبار الأدباء والسياسيين أن هناك ما يشبه التشفى فى تلك الشخصيات، بما يذكرنا بحالة الفرح الهستيرى التى انتابت الإنسان البدائى، وهو يقتل أباه ويأكل لحمه، فقد حظيت تلك المقولات والصور المصاحبة لها بنشبة مشاركة كبيرة ربما لم تتح للكثير من الملصقات الأخرى.

ثانى الأمثلة على هذه الحالة من تطبيق نظرية قتل الأب على الفيس بوك هو انتشار تحريف الأمثال الشعبية بقدر كبير، وكأن هناك حالة من رفض كل القيم المتوارثة، التى تسربها هذه الأمثال إلى وجدان المصريين ورفض المجاز الكامن فى تلك الأمثلة والتى يمنحها قدرتها على مخاطبة مختلف الفئات الاجتماعية فى مختلف الأزمان، وهكذا تحول المثل القائل "اكفى القدرة على فمها تطلع البنت لأمها" إلى "اكفى القدرة على فمها ينزل الفول منها" ويتحول المثل القائل "اللى بيته من‏ إزاز ميحدفش الناس بالطوب" إلى "اللى بيته من‏ إزاز ميغيرش هدومه فى الصالون" ويتحول المثل القائل "فاقد الشىء لا يعطيه" إلى "فاقد الشىء يدور عليه" ويتحول بيت الشعر القائل "تأتى الرياح بما لا تشتهى السفن" إلى "تأتى الرياح محملة بالأتربة" ويتحول المثل القائل "اللى ياكل لوحده يزور" إلى "اللى ياكل لوحده يشبع".

وماذا بعد؟

مما سبق نستخلص أن المجتمع العربى الآن بصدد إجراء تغيير جذرى فى مفاهيمه المؤسسة، ويأتى هذا التغيير عبر كتلة كبيرة من الشباب التى لم تجلس بعد على مقاعد القيادة، لكن فى طريقها إلى تلك المقاعد تحرق غالبية المفاهيم، التى ورثتها من مجتمعها "المغضوب عليه" ومن الممكن أن نفهم تلك الموجة التمردية من خلال فهمنا لنظرية "قتل الأب" وأهميتها فى تجديد المجتمع وتحول قيمه الأخلاقية وسلوكياته المصيرية، لكن يبقى أن نقول إن الإنسان البدائى لم يظل فى الكهف محتفلا بقتل أبيه واستباحة نسائه، وأن دانييل كوهن بنديت زعيم الطلاب فى الثورة الفرنسية لم يجلس فى ساحات السوربون وشوارع باريس منددا بحكم "الآباء" إلى أبد الآبدين، فقد تطور الإنسان البدائى وابتكر العديد من الآليات والأساليب التى تمكنه من تجديد المجتمع دون دماء أو هدم، كما تحول "دانييل كوهن بنديت" إلى العمل السياسى وأصبح عضوا فاعلا فى الحياة السياسية الأوروبية، وبقى الشباب العربى فى كهف السخرية على الفيس بوك وساحات الفضاء الإلكترونى حتى الآن مستمتعا "بقتل الأب" دون التفكير فيما بعد.

















مشاركة



الرجوع الى أعلى الصفحة