محمد حبوشه

شبح التغريبة الفلسطينية يخيم على غزة الآن

الجمعة، 12 أغسطس 2022 07:00 ص

مشاركة

اضف تعليقاً واقرأ تعليقات القراء

حرب بعد حرب.. تلك هى المأساة الفلسطينية في غزة، آخرها ما شنه جيش الاحتلال الإسرائيلي في مواجهة أرادها هذه المرة مع الجهاد الإسلامي، وتكشف الحرب الإسرائيلية مثل سابقاتها عن تجاهل إسرائيل كل الدعوات الدولية لوقف عدوانها على المدنيين، لقد شاهد العالم بشكل لا لبس فيه الوحشية والهمجية الإسرائيلية التي تنتهك أبسط حقوق الإنسان العربي الفلسطيني المسلم بعد أن قطعت شوطا كبيرا على طريق مصادرة حقوقه السياسية والتاريخية والقانونية، فالمجتمع الدولي واللجنة الرباعية الدولية ومؤسسات الأمم المتحدة جميعها يعرف أكثر من أي طرف آخر، بما في ذلك العالمين العربي والدولي وحتى السلطة الفلسطينية ما الذي يتوفر للفلسطينيين في قطاع غزة من غذاء ومواد أساسية ودواء ووقود، وأن إسرائيل تتحكم تماما فيما يدخل إليه ويخرج منه، بما في ذلك ما يدخل ويخرج عبر اقتصاد الأنفاق الذي يوفر العديد من المواد التي يفتقد إليها السوق المحلي.

 

العجيب أن أرباب المجتمع الدولي ومعهم إسرائيل يبررون سياسة الإجرام الإسرائيلي ضد الشعب الفلسطيني باستمرار إطلاق الفلسطينيين صواريخ محلية الصنع لم تقتل من الإسرائيليين في المستوطنات المجاورة لقطاع غزة منذ بدء إطلاقها وحتى الآن أكثر من بضعة أشخاص، الأمر الذي يدلل على أن إسرائيل تمارس ما يدل على مضمونها كدولة عنصرية تمارس الإرهاب ضد المدنيين وتضع نفسها فوق القوانين والأعراف والمواثيق الدولية، ويعلم أرباب المجتمع الدولي ومعهم إسرائيل أن إطلاق الصواريخ من قطاع غزة تستغلها الدوائر الحاكمة في إسرائيل وقتما تشاء لتحقيق أهداف معينة، ذلك أن فلسطيني غزة أبدوا رغبة حقيقية وعملية لوقف إطلاقها وهم قد التزموا بذلك مرارا وتكرارا، بالرغم من ذلك لم يتوقف العدوان الإسرائيلي على الشعب الفلسطيني والمطلوب ليس وقف صواريخ تأثيرها لا يتعدى كونه سياسيا ومعنويا وإنما المطلوب هو وقف المقاومة الفلسطينية.

 

ما سبق يحيلنا بالطبع إلى مقولة النجم العربي الكبير جمال سليمان، الذي جسد دور القائد (أبو صالح) في مسلسل "التغريبة الفلسطينية" حيث رصد العمل الدرامي فائق الجودة نضال الشعب الفلسطيني ضد المستعمر الإنجليزي في ما بين (الثلاثينيات والسيتينيات من القرن الماضي)، حيث قال: "هذا صراع طويل يا رشدي يا خالي، ما إله غير نهاية وحدة، طالما في فلسطيني واحد عايش بهالدنيا الحق ما يضيعش"، هذه الكلمات لابن شقيقته (خضرا) رشدي العبد - أي المرحوم حاتم علي الذي لعب دوره - عندما سلمه سلاح والده الذي قضى شهيدا إبان الثورة الفلسطينية عام 1936، وهو السلاح الذي قاتل فيه خاله حسن في حرب النكبة، كانت هذه الكلمات في مثابة أمانة مستمرة يورثها الفلسطيني لأبنائه وأقاربه الصغار؛ لأنها واجب اتجاه الأرض والوطن والتاريخ، وهى التي علقت برأس رشدي الطفل الذي فقد والدته وفرقتهم العادات والنكبة والاحتلال.

 

ولعل الرسالة المستمرة التي جسدها (حاتم علي) في اللقطة الأخيرة من (التغريبة الفلسطينية)، كانت في كلمات د. فتحي الشقاقي - رحمه الله "أن الأمة على موعد مع الدم، دم يلون الدم، ودم يلون التاريخ، ونهر الدم لا يتوقف، دفاعا عن المقدسات والأرض والتاريخ"، فكان استمرارية المقاومة، هدف الرسالة في اللقطة الختامية من المسلسل الموجع في أحداثه التراجيدية، إذانا من حاتم علي بأن المقاومة جذوة مستمرة، ظهر رشدي على باب المغارة الصخرية، وظهر لاحقا في الكرامة ومطارات الثورة وتل الزعتر وقلعة شقيف وسافوي وميونخ، في حصار المهد ومعركة مخيم جنين وليالي الاجتياحات الطويلة، في المنطار والزنة والشجاعية وخلف الخطوط.

حلق في سماء الجليل مع خالد وميلود، وأبحر مع دلال المغربي وبشار، خرج لهم من باطن الأرض مع بشير وأسامة، ونصب لهم الكمائن على الطرق الالتفافية مع العبيات ورائد والعياش وبراهمة، هاجم حواجز الاحتلال في القدس والضفة، مع ضياء ومهند وبهاء ومحمود كميل وأشرف نعالوة وأحمد جرار وصالح البرغوثي، اشترك في مناورة الركن الشديد بالذخيرة الحية ببارودة والده العبد وخاله الحسن، حمل فكره المقاوم الرشيد وسار إلى طريق القدس صوب التحرير، وقف على باب مغارة غزة آخر الحراس مقاتل، آخر الحراس لا يساوم ولا يهادن، بصق في وجه المطبعين.

كتب الشاعر الفلسطيني إبراهيم طوقان:

"هو بالباب واقف

والردى منه خائف

فاهدئي يا عواصف

خجلا من جرأته"

وها هى غزة اليوم خذلها الجميع إلا مصر بقيادة الرئيس عبد الفتاح السيسي الذي نجح في وقف نزيف الدم الفلسطيني مؤخرا، بعد أن تخلى عنها أهل الدار فكيف سينتصر لها الغرباء؟، غزة يتيمة تركت وحيدة على موائد الكبار اللئام الذين لا يرحمون ولا يسمحون للرحمة أن تصلها، من حصار إلى حصار لاينتهي، مجوعة، مدمرة، مهمشة، ومنسية فوق كل هذا وذاك، تكالبت عليها الدنيا بهدف واحد: تركيعها وتشليحها سلاح المقاومة الذي هو أصلا للدفاع عن النفس وإلحاق بعض الأذى في عدو يتغذى على القتل والتدمير وشعاره (أقتل كي تكون).

 

ويبدو لي أن توصيف "التغريبة" لا ينطبق فقط على حالة التشرد التي حلت بالشعب الفلسطيني أثناء وبعد نكبة عام 1948 ، حيث يعتبر المشهد الذي يمر به الفلسطينيون حاليا في غزة فصلا من فصول "التغريبة" التي لم تتوقف أصلا، غارات إسرائيل الجديدة على قطاع غزة أعادت أذهان سكان القطاع إلى أيام من المآسي محفورة في ذاكرتهم، حيث مضي على هول الحرب الإسرائيلية الأخيرة ضد قطاع غزة نحو 15 شهرا، وشنت إسرائيل عصر الجمعة الماضية سلسلة من الغارات المفاجئة على أهداف لحركة الجهاد الإسلامي في مناطق متعددة من القطاع الساحلي المحاصر منذ العام 2007 ويقطنه أكثر من مليوني نسمة.

 

ومثل القصف الإسرائيلي صدمة كبيرة وغير متوقعة للعائلات الفلسطينية في القطاع التي كانت تتحضر بالخروج كما نهاية كل أسبوع للاستجمام على شاطئ البحر أو المنتزهات بسبب حرارة الصيف وانقطاع التيار الكهربائي لساعات طويلة، وعقب الغارات الإسرائيلية المكثفة التي ردت عليها سرايا القدس الجناح العسكري للجهاد الإسلامي بإطلاق رشقات من الصواريخ بدت شوارع القطاع شبه خالية من المشاة وأصبحت حركة المركبات متوقفة عدا عن طواقم الدفاع المدني والإسعاف، كما أغلقت المقاهي والفنادق المطلة على شاطيء البحر أبوابها بعد مغادرة زوارها على الفور خشية على حياتهم، ومنذ ساعات صباح اليوم شلت الحركة التجارية تماما عدا عن المخابز وقررت الجامعات في غزة عدم استقبال الطلبة حرصا على سلامتهم.

وفي ظل استمرار التغريبة الفلسطينية بصور مختلفة في الزمان والمكان، يبرز سؤال برسم الإجابة، هل الشعب الفلسطيني ضلع قاصر في زمن التغاريب، وما هى السبل حتى ينال معاملة إنسانية في المنافي القريبة، فهل من جواز سفر للفلسطيني جديد يخوله عبور القارات في جهات الأرض الأربعة فهو إنسان في الدرجة الأولى قبل إطلاق الشعارات القومجية، وصحيح أن المجتمع الدولي دعا للتوقف عن التعامل بازدواجية، مؤكدا أن ذلك هو ما أوصل إسرائيل للتعامل بهذه الطريقة وارتكابها "للجرائم والانتهاكات" بحق الفلسطينيين.

 

وبعد كل ما مضى ظني أن أهمية مسلسل (التغريبة الفلسطينية) في أنه نشط الذاكرة الفلسطينية وصنع مخزونا قيميا يبقى للأجيال القادمة، بعدما راهن الاحتلال الإسرائيلي على طمس الذاكرة الفلسطينية من عقول الأجيال المتعاقبة، ولم يكتفي بتلخيص تاريخ تلك المرحلة، بل استعرض كذلك الحياة الاجتماعية الفلسطينية بأطيافها وطبقاتها المختلفة، إذ تميز بتنوع شخصياته، فضم الفلاح والعامل والشاعر والمثقف والثائر والإقطاعي وهو يقدم المأساة الفلسطينية في صيغة قريبة من فهم شرائح واسعة من الجمهور العربي تعجز وسائل تعبيرية أخرى عن إيصالها وهو ما من شأنه أن يساهم في حفظ الذاكرة الفلسطينية أمام المؤامرات والتشويه التاريخي الذي يعمل عليه الاحتلال الإسرائيلي من خلال الدعاية الإسرائيلية.

 

وقد لفت المؤلف الدكتور (وليد سيف) الانتباه لكل المجاهدين والثوار الفلسطينيين المجهولين الذين قضوا حياتهم في العمل الجهادي و الكفاحي لتحرير فلسطين، ويلاحظ ذلك في أول مشاهد المسلسل، فقد تعمد صناع المسلسل ذلك، مثلا لم يظهر أي مشهد عن دور القائد "فوزي القاوقجي) ولكن ذكر اسمه فقط دون أن تظهر شخصيته، ولم يظهر "الشيخ عز الدين القسام" إلا في مشهد واحد، ويمكن الملاحظة أن القرية الفلسطينية في المسلسل لم يكن لها اسم، فقد كانت مجهولة طيلة حلقات المسلسل، فقد ظهرت في الحلقة الأولى عبارة  "قرية فلسطينية" فالعمل لا يقصد تحديد منطقة بعينها في فلسطين، فالتعميم في اختيار أماكن الأحداث إشارة إلى عمومية مقاومة المحتل وشمولها لكل مناطق فلسطين.

 

والآن نحن بحاجة إلى مسلسل ملحمي جديد على  غرار (التغريبة الفلسطينية) كي يجسد سجل المرارة والألم التي يعيشها سكان غزة حاليا كجزء جريح من عموم وطن محتل، ولتتكرر المشاهد الأولى من التغريبة الفلسطينية مثلما فعل المخرج المبدع "حاتم علي" فى "التغريبة"، فبعزف شجى حزين على إيقاع "القانون"، وفى شموخ وكبرياء يرقد الجسد المسجى بعد طوال عذاب، إنه "أحمد أبو صالح الشيخ يونس"، والذى جسد دوره ببراعة الفنان الكبير "جمال سليمان" فى ارتجال مذهل، فبعد أن سلم الروح لبارئها منذ لحظات، يدخل الأخ الأصغر "على" وقام بدوره "تيم حسن" فى واحدة من أعماله الدرامية الناضجة - على صغر سنه آنذاك - كان حاضرا لتوه من عمان التى استقر بها بعد جسد الحلم الكبير للعائلة الفقيرة بحصوله على الدكتوراه من أمريكا.

 

ونذكر في مسلسنا الجديد بمشهد يعد "ماستر سين" المسلسل، حيث يدخل "تيم" ليجتر الذكريات التى عاشها فى كنف أخيه "أبو صالح" الذى كان يمثل العمود الفقرى للعائلة الريفية الفلسطينية الفقيرة، فقد ارتاح المناضل الأسطورى لتوه بعد أن ذاق مرارات الغربة والتهجير كل سنوات عمره من المرارة والألم، وعايش الانكسارات والهزائم الكبرى التى سبقت النكبة وما بعدها، دون وصول إلى أفق قريب للعودة التى طال انتظارها، ولا تزال حتى الآن حلما صعب المنال لدى أجيال متعددة من أبناء فلسطين.

 

وللحقيقة فإن كاميرا "حاتم على" مخرج هذا المسلسل الأيقونة حلقت ببراعته المعهودة لتغوص بليونة خاطفة تحت جلد القضية، وفى عمق هذا الجرح الغائر يفور الدم الفسطينى فواحا برائحة المسك والعنبر، مخلوطا بطعم المجد والخلود الأبدى لأولئك الذى فنوا فى سبيل القضية التى ماتزال تشكل وصمة عار على جبين العرب والعالم إلى يومنا الحالى، وكأنها تعيد من عام إلى عام ومرورا بالانتفاضة الثالثة فى عام 2016، ووصولا يومنا الحالى دقت أبواب التارخ الآن "أسطورة سيزيف" ليعاود الكرة من جديد دون جدوى الصعود والهبوط.

 

ولا يغادر مخيلتي ذلك الأداء الاستثنائي لنجمة الدراما العربية "نسرين طافش" بدور "جميلة" والتى عبرت فيه بصوت شجى عن تلك الأنثى المسكونة بالعفة والعفاف، على رقة حالها وغلبتها على أمرها، مقهورة بتخلف عشيرتها، وبمزاج من عفوية وتلقائية الموهبة التى تفوق سنها وخبرتها - آنذاك - استطاعت فى ثلاثة حلقات فقط أن تبكينا بكاءا حارا يدمى القلوب على تلك الفتاة البريئة، وعلى رقة حالها أصبحت رمز فلسطين سليبة الإرادة، ضائعة الهوى والهوية، ناهيك عن عذوبة أداء كل من (جوليت عياد، جمال سليمان، خالد تاجا، يار صبري، وبالطبع (حاتم على) نفسه فى دور "رشدي".










مشاركة

اضف تعليقاً واقرأ تعليقات القراء
لا توجد تعليقات على الخبر
اضف تعليق

تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة





الرجوع الى أعلى الصفحة