حازم حسين

الصُفّارة.. خير الابتسام «ما قلّ ودلّ»

الأربعاء، 05 أبريل 2023 11:55 ص

مشاركة

اضف تعليقاً واقرأ تعليقات القراء
الأفكار المُبتكرة يُمكن أن تكون مدهشة؛ لكن الدهشة نفسها تُصنع بصور عدّة، قد يكون أحلاها وأكثرها تحدّيًا أن تقتنصها من طرق قديمة وعبر وصفات ربما تبدو للبعض مُستهلكة. المدخل الأول نادر ولا يتكرّر كثيرًا، والثانى صعب ولا يقدر عليه أغلب أهل الصنعة؛ لكنه كان رهان صُنّاع «الصفّارة» ولعبتهم المُسلّية فى دراما رمضان.
 
لعلّ مسلسل «الصفّارة» أبرز الأعمال الكوميدية خلال الموسم، إذ حافظ على حالة مُتكاملة من الإجادة، بدءًا بطاقة الإضحاك التى تُتيحها الفكرة، ثمّ الرشاقة وإيقاع العمل السريع، والتمثيل الذكى القادر على تفجير الكوميديا من التقابلات الفاقعة، وأخيرًا طزاجة الحوار والقدرة على بناء مواقف مُفعمة بالحيوية وخارج التوقُّع. التيمة الأساسية ليست جديدة، والحكاية لا تُقدّم دراما خطيّة صاعدة كالمعتاد، وإنما عبارة عن اسكتشات أو لوحات درامية مُتتابعة، تكتسب فاعليتها الكوميدية من تناقضها المباشر مع اللوحة الأولى «الحاملة للحكاية» ومن تناقضاتها الداخلية، ثم من كاريكاتورية بناء الشخصيات والمواقف.
 
تحتمل تلك الصيغة من الدراما الإيغال فى المبالغة أو ترك مجال للثغرات، كحالة «راضى» شخصية المتحف الذى يتكرّر اصطدامه بالبطل ثم فى سادس مرة يتحدّث بـ«مورال» المسلسل كأنه يعى انتقالات الزمن والحكى، كما تحتمل كشف أوراق اللعبة منذ اللحظة الأولى، مثل حالة «المعلم لبلوب» حامل سر الصفارة الذى لم يفلح فى تغيير مصيره وظل حارسًا فى منطقة أثرية. العمل بكامله يدخل الرهان مع المتلقى على أرضية مكشوفة تمامًا: نحن فكرة مُعتادة عن العودة فى الزمن/ نُقدّم اسكتشات درامية مُتتابعة كما فعلناها وفعلها غيرنا من قبل، حكمتنا أنه لا فائدة من مُعاندة القدر أو التمرّد على المكتوب، ماكينة ضحكنا تروسها الانتقالات حادة التناقض ووقودها شخصيات ومواقف كاريكاتورية ونكات تقوم على المفارقة اللغوية وألمعية مُثقّفى الطبقة الوسطى. هكذا نُقدّم أنفسنا لك عزيزى المشاهد بكل بساطة وانكشاف، ونتحدّاك أننا سنُدهشك وننتزع منك الضحكات!
 
لا يُمكن القول إن «الصفارة» مُغامرة درامية على أى مستوى من المستويات. صحيح أن الكوميديا رهان صعب وغير مضمون، لكن تلك الوصفة من صناعة الضحك مُحبّبة لقلب أحمد أمين وسبق اختبارها وتكرار نجاحها من قبل، سواء فى البلاتوه أو أمين وشركاه وغيرهما. المُغامرة ربما تخص أمين نفسه، الذى قدم دورًا مُركّبًا فى «جزيرة غمام» رمضان الماضى، وحقق نجاحًا واسعًا رفع توقّعات الجمهور منه فيما يخص صنعة التشخيص والدراما الثقيلة؛ ليُقرّر أن يعود إلى لعبته المُمتعة. لا أتصوّر أنه تلقى عرضًا فوافق عليه مدفوعا بذكاء الاختيار، وإنما على الأرجح يعود الأمر إلى ذكاء القرار، وأنه كان صاحب الفكرة ودينامو المشروع الأول. هذا النمط من الكوميديا يخص أحمد أمين أكثر من كل شركائه فى العمل، وينتمى إليه بالدرجة الأكبر، لكن يُحسب له أن لديه فريقًا يُشاركه الرؤى ويعيش معه التجارب بالطريقة نفسها. تكرر ذلك مع عناصر الكتابة، ومع المخرج علاء إسماعيل، وجميعهم تعاملوا مع المشروع بقدر ما يحتمل، وأجادوا فى أن يكون طبيعيًّا وطازجًا دون تعقيد أو إرهاق فى التلقّى. 
 
التمثيل كان مُفتاحًا أساسيًّا من مفاتيح اللعبة. الرهان هنا على توفر قدرة التقمّص ثمّ ذكاء التعامل مع الشخصية، بحيث يُمكن الجمع بين صيغة طبيعية للشخصية من دون التخلّى عن البُعد الكاريكاتورى الذى يُطوّر الحدث ويُفجّر الكوميديا. نجح أحمد أمين بجدارة فى اللعب مع شخصياته على امتداد المسلسل، محافظًا رغم كل التنويعات على خط مُتّصل لا يفقد فيه شخصيته الأساسية، وقدّم حاتم صلاح أداءً مُتناغمًا مع هذا الرهان واجتهد فى تنويع الأداء، وإن بدت بعض شخصياته مُتشابهة سياقاتها المُختلفة، لكن مفاجأة العمل كله طه دسوقى، فرغم تجاربه القليلة سابقًا، ومساحة الدور العريضة فى «الصفارة»، كان راسخًا وقادرًا على المناورة واللعب مع الشخصيات وإمساك خيوطها بموازنة حساسة بين الطبيعية والكاريكاتورية، وبقدرة على التنوّع وصولا إلى المُغايرة الكاملة، دون أن يفقد اتّصاله باللوحة الدرامية، أو الحكاية الأصلية، أو شركاء المشهد والشخصيات المُحيطة.
 
أهم مزايا التجربة قدرة صُنّاعها على مقاومة الإغراء. على ضبط الإيقاع وكبح شهوة التكرار واجترار الحكاية على مزيد من الخلفيات. فكرة «الصفّارة» ونسيجها يسمحان بأن يكون المسلسل «أوبرا صابون كوميدية» إن جاز التعبير، أى أن تمتد تابلوهاته ومواقفه على موسم كامل أو مواسم متتابعة، لكنهم اكتفوا بخمس عشرة حلقة فقط، مثّلت مجالا حيويًّا رشيقًا للتيمة الأساسية مع عدّة تنويعات عليها، وهو موقف ناضج يتجنّب الأثر الجانبى للأُلفة والاعتياد فى تجفيف الإبهار والطزاجة وصولاً إلى إسباغ ملامح روتينية على اتصال المتلقى بالعمل؛ بما يُمكن أن يُحوّل أى كوميديا لطيفة إلى رطانة مُملّة. هذا التخوّف كان حاضرًا وفاعلاً فى أذهان الفريق؛ فعبروا بالحكاية بسرعة وثبات دون أن يفقدوا شغفهم أو يُفقدوا المتلقى مُتعته!
 
«الصفارة» عمل قادر على منح البهجة ورسم الابتسامات على الوجوه، بسهولة ومن دون صخب أو استعراض وفرد عضلات. حلقات خفيفة ستُحبّها وتتعلّق بها وقد تشعر بالأسى وأنت تُودّع دقائقها الأخيرة، لكنك ستظلّ مُمتنًّا للتجربة وفريقها، أولاً لأنهم وفّروا مساحة مُتعة برشاقة وخفّة دم غير مُفتعلتين، والأهم أنهم كانوا ضيوفًا بمستوى الرشاقة نفسه، فقالوا كلمتهم وصنعوا ابتسامتهم ومضوا قبل أن تذوب حلاوة الحكاية فى أرواحنا أو يتبخر من أفواهنا طعم السكر.









مشاركة

اضف تعليقاً واقرأ تعليقات القراء
لا توجد تعليقات على الخبر
اضف تعليق

تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة





الرجوع الى أعلى الصفحة