حازم حسين

لعنة العبث مع الحضارة.. كوميديا سوداء ونيران صديقة فى «كليوباترا نتفليكس»

الأربعاء، 24 مايو 2023 10:30 ص

مشاركة

اضف تعليقاً واقرأ تعليقات القراء
انتهت زوبعة وثائقى «الملكة كليوباترا» إلى لا شىء تقريبًا، ليس بمعنى ضعف الأثر فقط، إنما انعدام القيمة فنيًّا وحتى تجاريًّا. قالت مجلة «فوربس» إن المسلسل حصل على أدنى تقييم من الجمهور والنقاد بين كل أعمال «نتفليكس»، وفى تاريخ الدراما التليفزيونية. لم يحظ بمتابعة تكافئ اللغط المثار حوله، وفى الغالب كان جدلاً مقصودًا من زاوية الهدف المُراد تحقيقه، وفى إطار التسويق لبقية السلسلة المُخطّط لها عن «ملكات أفريقيا» وكانت كليوباترا حلقتها الأولى.
 
ربما يتسبّب المشهد المُرتبك فى أن تُعيد المنصّة النظر فى المشروع مُجددًا، إما بالتعديل وضبط الفلسفة أو ربما التأجيل. ما خرج إلى العلن يبدو فقيرًا لدرجة لا تُكافئ الموازنة الإنتاجية وآمال العوائد المالية والمعنوية.. هل يمكن أن تشعر نتفليكس بالخطأ؟ أو أن يدفعها الندم إلى التوقّف عن استمراء العبث بأمورٍ تقع فى صلب الهويّات الوطنية والركائز الثقافية لقطاعات واسعة من مُشتركيها؟ وهل فكرت مع تكرار الضيق والانتقادات فى البحث عن مساحة مُتوازنة بين صناعة الترفيه واندفاعة خطابات الصوابية السياسية فى إنتاجها؟ ربما يصعب أن تجيب، ثمّ أن يكون الجواب مُقنعًا لو فعلت، لكن ما حدث يبدو كفيلاً بفرض تلك الأسئلة وغيرها أمامنا وعلى الشبكة، لا سيما أن مُجتمعات «الميم والأفروسنتريك» قد لا تضمن لها الجدوى الاقتصادية؛ إن اختار جمهورها حول العالم الانفضاض عن محتواها المُلوّن ورسائلها سافرة التوجيه.
 
أُدير المشروع باستخفافٍ فانزلق إلى الخفّة. الأزمة فى الخطاب والخطيئة فى القالب، ومن وراء ذلك وعى الدائرة المباشرة التى تصدّت للتجربة غير مُتسلِّحة بفهمٍ عميق لأبعادها. إذا استعرنا أغراضهم وحاولنا التفكير بدلاً منهم، يمكن القول إنه كان يسيرًا تمرير الرسالة، على ما فيها من انحراف، لو وُضعت فى حيِّز التخييل، وتجنَّبت ضغوط «التوثيق» وما يتقيَّد به من اشتراطات موضوعية. الخلاف ليس فى موقفٍ عابر أو تفصيلة هامشية، إنما يدور على محاولة تأسيس مُضادّة تمامًا للعقل والمنطق والثوابت التاريخية، الاختلاق يُلائمه الخيال؛ من أجل إكساب الصورة المُصطنعة وجودًا ناعمًا لا يُثير الغبار ولا يُهدِّد بنسفها من بدايتها؛ ليُبنى الرهان لاحقًا على توظيف تلك المُوتيفة فى مسارات أخرى تُعزِّز سردية التلفيق والانتحال. ما حدث أنهم تجاهلوا تلك التقنية التى اعتادتها هوليود طويلاً، أو جهلوها، أو كانوا فى عجلةٍ من أمرهم لقصّ شريط موجة عالية من السرديات الشبيهة. والمُحصّلة أن قوة «كليوباترا» المعنوية كانت أكبر من قدرات تحريف حكايتها، وأن لعنة الحضارة التى لا تزال راسخة فى الأرض وحاضرة بين المكوّنات الفاعلة فى هويّة ورثتها قد أصابتهم. الخسارة على هذا المحور أفدح ممّا كان مأمولاً من مكاسب؛ إذ سلّطت على الصوابية و«الأفروسنتريزم» وتسويد التاريخ طاقة نقدٍ وتفنيد أشرس من كل ما عرفته سابقًا، وصعّبت عليهم مهمّة العبور بالمحاولات المقبلة.
 
انشغال المسلسل بتسويق «قراءة سوداء» لتاريخ آخر ملكات مصر القديمة، صرف نظره عن الاهتمام بابتكار مُعالجة مُحكمة للتفاصيل المُنتقاة بانحيازٍ واضح من سرديّتها الطويلة، وكان التعميم فخًّا عميقًا داسته الشبكة وفريقها. انطلقت زاوية النظر من نقص الأدلة الأركيولوجية عن «كليوباترا»، وأحاديث هامشية تُشير إلى أصول محلّية من ناحية الأم، ليتفرع إلى تسويدٍ كامل للأسرة البطلمية وبلاطها وحاشيتها، كأنهم جميعًا من رحم واحدة، اعتبرته المصادر الشحيحة مصريًّا وأراده «الأفروسنتريزم» زنجيًّا. يُحاول العمل تمرير أوهام المركزية الأفريقية؛ لكنه لم يتحرَّر من أثر المركزية الغربية، ما أنشأ تناقضًا واضحًا بين أسطرة شخصية الملكة «المرأة اللعوب نافذة الإرادة ومُروّضة الرجال»، وانسحاقها شبه الكامل أمام سطوة الذكر الأبيض، وانطلاقًا من أن الاستعلاء «الجرمانى الأنجلوساكسونى» الراهن يعتبر نفسه وريث التفوّق الرومانى، فقد أطلق صُنّاع المسلسل رصاصةً مُباشرة على أقدامهم وأصابوا أكذوبتهم بـ«نيران صديقة»؛ إذ بينما يحاولون فضّ تشابكاتهم مع الأفارقة الصاعدين فى بيئاتهم العاجزة عن نفض ميراثها العنصرى تمامًا، ويسترضونهم بتسهيل السطو على ذاكرة الآخرين، يواصلون السقوط بالاعتياد فى ثنائية السيد والعبد/ الأبيض والمُلوّن.
 
حالة الاختزال والتنميط صاحبت المسلسل طويلاً. بينما يُشير فى تقديم البطلة إلى أنها اهتمّت بالثقافة وكانت تقيم فى المكتبة وبين المخطوطات، يُغيّب هذا البُعد المهم لاحقًا، فيُصوّرها شخصية شهوانية يغلب عليها النزق والارتجال. يتصادم ذلك مع المُستقر عن «كليوباترا»، وحتى مع أثرها الذى كان بمثابة إحياء وإعادة بعث للمملكة المصرية وسلطة البطالمة. ثمّ تتفرّع عن ذلك ثغرات أخرى فادحة: غلبة الطابع الصحراوى على الصورة، رغم طبيعة مصر الزراعية ومحوريّة البحر فى هندسة الإسكندرية وتخطيطها، ثمّ تقديم نمط ملبس ذى صبغة عقائدية تُهيمن عليه أغطية الرأس للنساء من دون فارق بين مصر وروما، وكذلك عرض التركيبة البشرية فى الصعيد محصورة فى الزنوج واليهود، بخلطٍ ساذج بين العِرق والدين، وربما بافتئاتٍ على خريطة الاعتقاد الحقيقية وقتها. لا يبدو أن هناك اهتمامًا بتوثيق أى شىء، حتى ما يخصّ الصبغة التى فرضوها لتلطيخ وجه الحكاية.
 
لم تكن مصر فقيرة بصريًّا وقتها، لا فى البيئة ولا العمران والملابس والاكسسوارات والطقوس والاحتفالات؛ لكن المعالجة البصرية اختارت أن تعكس وجهًا باهتًا لا يتّسق مع التسلسل الحضارى أو المُدوّن عن تلك الفترة. ربما رأى فريق العمل أن التقشّف قد يُقدّم مُقاربة لواقع مجتمعات جنوب الصحراء وقتها، ما يُسبغ نكهةً منطقية على روايتهم المنحولة؛ لكن هذا الوهم بدا فالقًا عريضًا فى جسد الموضوع.. من زاوية الاستعارة السياقية ورهان الشحن النفسى، كان يمكن أن تلعب البهرجة دورًا فى استلاب المُتلقّى وإغلاق دائرة الإيهام لصالح الحمولات الدلالية السوداء، لكنهم لم يكونوا ماهرين لتلك الدرجة؛ ففرّطوا فى «جمالية الصورة/ التمرير الناعم»، لصالح «خطابية الصوت/ الرسائل المباشرة»، ولقاء ذلك سقطت عناصر الصنعة الفنية تحت سطوة الأيديولوجيا، فجاءت الأزياء رثّةً تفتقر للذوق ولا تُترجم تراتبية المراكز اجتماعيًّا وسلطويًّا، وبدت الموسيقى بإيقاعها اللاهث وأجوائها الملحمية مُعادلاً معكوسًا لتراجيديّة القصة، من ناحية التأريخ للهزيمة أو الأسى لانسحاق البطلة الصاعدة من قاعدة السُّلّم العرقى، وفق قيم عصرها أو على أرضية الصوابية بعد الحداثية، وكذلك كان الديكور والتلوين والمونتاج أحمالاً مُرهقة لم تُفد التجربة لا بالجمال ولا بالأثر.
 
مقتل المسلسل فى أنه قاد صُنّاعه بدلاً من أن يقودوه. حدود الرهان وقيود القصد المُسبق أوقعتهم أسرى لرغبة إنجاز المطلوب من أيسر الطرق، بدل البحث عن أفضلها. ربّما لهذا اعتمد نهجًا مدرسيًّا فى اقتفاء المسار الخطى للحكاية، بصيغة لا تخرج فى حرف عن صفحة «كليوباترا» على ويكيبديا، وأخضع المُداخلات لتلك الرؤية المُتعسِّفة، ثم استحضر الدراما لتكون بروازًا يُؤطّر «الصورة السوداء» المراد تعليقها على أحداق المشاهدين، وربما للتشويش تحت وهم الإمتاع.
 
للأسف غابت المُتعة وراء سيناريو سطحى لا يشتبك مع الحكاية ولا يُطوّر الصراع، ولا حتى يُقدّم الشخوص خارج الأداتيّة الضيّقة، ولهذا جاء التمثيل خفيفًا وروابطه مُفكّكة وانفعالاته بين البرود الكامل والمُبالغة المُفرطة، ولم ينجح الإخراج فى تجميع الخيوط غير المُنسجمة فى نسيج عضوى مُقنع، فبدت الحالة كأننا إزاء «كولاج» قطّعه مقصّ طائش من أعمال شتّى، وليس جسدًا واحدًا مُكتمل الروح ومتماسك الأعضاء.
 
العنصر الذى كان يُفترض أن يحمل البناء ويجبر تناقضات بقيّة العناصر، خرج فى الأخير مُهلهلاً تمامًا.. انتقاء المُتحدِّثين يبدو أنه خضع لهندسةٍ مُغلقة وشديدة التسلُّط، ولا يمكن تجاهل أنه لم يُشرك أى مُتخصِّص أو مصدر رسمى من منظومة الثقافة فى مصر، كما لم يستعن بوجوهٍ بارزة من أساتذة المصريات المعروفين على امتداد العالم، ودارت السردية المُختلقة بالأساس على ضيفةٍ واحدة «سوداء»، اضطلعت بمهام استشارية فى المشروع إلى جانب المقابلة، ورغم افتتاح مُداخلتها بوصية مُضحكة من جدّتها عن تجاهل ما يقال فى المدارس/ العلم، لصالح الانحياز العرقى العارى من أى إسناد/ يقين السود عن تاريخهم، تعود لتُؤكّد أنه لا دليل على أصول كليوباترا أو لونها. الأمر يتجاوز الفجوات المنطقية إلى السيولة وقدرٍ مُفرط من الاعتباط والتدليس. يبدو بيسيرِ النظر أن اللقاءات أُخضعت لتحريرٍ قاسٍ، لعب فيه المونتاج وملء الشقوق بالدراما دورًا فى تمرير الخديعة، لا للمُتلقِّين وحدهم؛ إنّما للضيوف أيضًا.
 
فيما يُشبه العودة عن بعض ما نُسب إليه بالإيحاء فى المسلسل، يقول إسلام عيسى ذو الأصول المصرية: «لم يكن فى مصر أشخاص ذوو بشرة داكنة، ولم تكن أصول حضارتها من أفريقيا جنوب الصحراء الكبرى، والرؤيتان شكلان من أشكال المحو» بحسب مجلة فوربس. وقالت كولين دارنيل المتخصصة فى المصريات للزميلين رامى نوار وأحمد العدل، عبر تليفزيون اليوم السابع: «صنّاع المسلسل أضاعوا فرصة إنتاج عمل حقيقى جاد، وكل ما أوردوه معلومات مغلوطة. لم أكن أعلم شكل البطلة، وتعرّضت للخداع. الشبكة خدعت المشاركين، والجميع شعروا بالصدمة فور طرح البرومو».. سواء يعود الأمر إلى نتفليكس، أو جادا سميث وشريكتها «شيلى هالى» أستاذة الدراسات الأفريقية، فإن ما يبدو أننا إزاء إعادة تحرير، لا توثيق موضوعى مُتجرّد للتاريخ.
 
عندما صكّ السنغالى أنتا ديوب نظريته عن «الأصول الزنجية للحضارة المصرية» عام 1954، بتعسُّفٍ فى الاستدلال عبر تحوير اسم «كيميت» من دلالته المباشرة على الأرض إلى إشارة للعرق، كان فى حقيقة الأمر ينسلخ من هويّته، عن شعور بالدونيّة أو رغبة فى التعالى، عبر الانتساب إلى هويّة أخرى يراها أرقى. الأمريكيون يعيشون أزمة مُضاعفة مع الفكرة، بين ثراء التعدُّد وأعبائه الثقيلة على التماسك الاجتماعى؛ لهذا يحاولون تفكيك المركزيات الثقافية الراسخة: إما بالتصادم معها، أو بإلحاقها على عناوين أخرى تُوسّع نطاق ملكيتها والتنازع عليها. ما يحدث الآن ليس مُحاولةً أُولى، فقد نشرت «الأهرام» فى مارس 1989 عن تظاهرة سوداء أمام معرض رمسيس الثانى فى دالاس بولاية تكساس تدّعى حقها فى الحضارة المصرية. مسلسل «نتفليكس» أيضًا يُعانى أزمة هويّة، انطلاقًا من قالبٍ لم يُخلص للدراما ولا للتوثيق، ومن إخضاع التاريخ لقراءة نسويّة مُنفصلة عن مرجعيّة الحكاية، والتناقض فى «التسويد» بأدوات الرجل الأبيض؛ فخرجت التجربة مُشتّتة ومُتضاربة وغير مُقنعة، وإن كان ثمّة شىء أسود ضمن مكوّناتها، فإنها الكوميديا فقط.









مشاركة

اضف تعليقاً واقرأ تعليقات القراء
لا توجد تعليقات على الخبر
اضف تعليق

تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة





الرجوع الى أعلى الصفحة